هو رجل كبير في السن، على ملامحه ارتسمت علامات الشقاء واليأس والحزن... جاء بصحبة أحد جيرانه الذي لولاه لما استجمع قواه وأتى ساردا قصته التي كتمها في قلبه أكثر من ستين سنة هي سنون عمره التي قضاها على أرض هذا الوطن... بكلمات مترددة خجولة بعد مقدمة من صاحبه قال هذا الشيخ البائس: «وُلدت وترعرعت على هذه الأرض التي لم تطأ قدماي أرضا غيرها... كنت أنا وحيد والدي اللذين ما إن اشتد عودي حتى رحلا إلى بارئهما تاركينني وحيدا في دنيا لم يكن لي فيها لا عم ولا خال ولا أي قريب... عملت في فلاحة الأرض أسترزق منها قوت يومي... رضيت بالقليل مما يأتيني منها وأتممت مشوار حياتي على هذا المنوال حارماً نفسي من متع الدنيا كلها واولها الزواج وتكوين أسرة يزينها أبناء ربما كانوا أشد ما أحتاج إليه وأنا اليتيم الغريب في أرض لم أعرف عنها أي شيء غير أنني ولدت فيها ومشاعري وكياني، بل حياتي كلها تنطق بـ «أنا بحريني»... هذه العبارة ما فتئت أرددها بيني وبين نفسي تدفعني إلى ذلك كل جوارحي... ولكني حين أُسأل من شخص غريب عن هويتي أغص بالكلمة فأقولها بتردد والحزن يفتت ضلوعي... «أنا بحريني» يلفظها القلب ويأبى اللسان ذلك كونه سيطالب بالدليل المادي على ثبوت هذه الهوية... وهنا لا يملك إلا الصمت وحبس الدموع في المآقي، فعلى رغم انقضاء زهرة عمري وشبابي في هذا البلد مازالت متنكرة لي ولم تشرفني بحمل الجواز الأحمر الذي هو إثبات للمواطنة الوحيد المعترف به في كل دول العالم... فحرمت من أوراقه وبقيت صورته ومعناه الحقيقيان محفورين في الوجدان «أنا بحريني». وبعد هذا العمر أنا لم آتِ إلى هنا مطالبا ولا حتى شاكيا حالي وظروفي الصعبة، بل جئت متوسلا الحج إلى بيت الله الحرام... فلم يعد في العمر بقية، وبيت الله الذي جوازه الإيمان هل يُعقل أن أحرم من زيارته لأني محروم من الجواز؟!
هذه الحادثة مرت عليها شهور كثيرة واحتوتها صفحة «كشكول» ضمتها إلى ما تحويه من مشكلات، واستعادها إلى ذهني من جراء مكالمة تلقيتها من امرأة تقول إنها من أصل آسيوي ولكنها تزوجت بحرينيا (من دون جواز) منذ أكثر من 40 عاماً وعندما توفي زوجها طمع فيها الطامعون من أصحاب السوء فباتوا يضايقونها ظنا منهم أنها امرأة ستكون سهلة المنال وخصوصا عندما تخلو الدار من أبنائها... كل ذلك لأنها غريبة عن الوطن، كانت نادرا ما تخرج من بيتها من دون زوجها وعندما فقدته فمن المفترض أن تكون فقدت كل شيء بعده حتى الأمان في أرض انتمت إليها قلبا وحُرمت من حمل هويتها بـ «جواز أحمر»!
امرأة أخرى جاءت طالبة «الجواز» لكي يتمكن ابنها المتفوق من الحصول على بعثة لإكمال دراسته، فلضيق ذات يدها لن تتمكن من ابتعاثه للدراسة على حسابها الخاص... تعثرت حياتها بسبب هذا الجواز وجل أملها تعويض ذلك في ابنها!
أنا لست هنا في صدد فتح ملف التجنيس ما يجوز وما لا يجوز فقد خاض في هذا الغمار من خاض وإن كان المجال واسعا والملف يبدو أنه بداية بلا نهاية... إنما أنا هنا بصدد إلقاء نظرة إنسانية إلى هؤلاء المنتمين إلى الوطن قلبا وروحا وسعوا بكل جهدهم لكي يرفعوا اسمه ولكنه تنكر لجهودهم فقط لكونهم لا يملكون «بطاقة المواطنة الحقة»!، ما ذنبهم وهم المولودون على أرض لم يعرفوا غيرها وكونوا أسرا ممتدة، جذورها غُرست في أعماق هذا الوطن لكي تكون حياتهم كلها رهينة «جواز» لم تشفع لهم ولادتهم في منبته من الحصول عليه؟ أخال كثيرين ممن يتنعمون بـ «الجواز» لم يقدروه حق قدره فعاثوا في الأرض فسادا وسرقة... وعندها يظل السؤال مطروحا: من منا يستحق شرف الانتماء إلى هذه الأرض؟
إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"العدد 779 - السبت 23 أكتوبر 2004م الموافق 09 رمضان 1425هـ