هل يمكن أن يقبل أي مراقب سياسي للحوار الدائر بين وزير العمل مجيد العلوي ووفد الجمعيات الأربع المفاوض بالتفسير الذي ساقه البعض «بأن سبب إلغاء الحوار التقاء الجمعيات الأربع السفير البريطاني؟».
وضمن أية خانة يمكن وضع هذا التفسير المغتصب اغتصاباً في مقابل الوقائع السياسية، التي تفصح عن تململ الحكومة من الحوار، ورغبتها في امتلاك أية حجة، لإنهائه بصورة قسرية؟
لاشك أن هناك مجموعة تداعيات سياسية تحوط الحدث، وتجعل منه مشهداً درامياًّ تعودت عليه الحال السياسية في البحرين، فأصبح صورة من صور التراجع واللاتراجع، والإقدام والإحجام، هكذا كشعرة معاوية التي لا يريد أن يقطعها بين الناس، لكنه لا يريد أن يقدم مكاسب جدية إليهم، ما يعني أن المراوحة تحت مظلة الإصلاح ستكون معلماً مستقبلياً مادام الجميع ينتقد ويتكلم و«يهذر» وربما يهذي، فهذه هي الغاية، وما فوقها لن تطوله الأيدي.
وفق هذا المشهد المحفوف بالتعقيدات السياسية، وبحال الشد والإرخاء، يمكن فرز مجموعة معطيات سياسية تجعل الحكومة تتنقل من محطة سياسية إلى أخرى بهذا النفس، من دون أن تقدم مكتسبات فعلية إلى المعارضة، لكونها تعتقد أن المعارضة لن تخرج من دائرة الكلام إلى دائرة الفعل والعمل السياسي السلمي الضاغط والمنظم.
أولا: يمكن القول أن أجواء الحوار التي سادت بين وزير العمل مجيد العلوي ووفد الجمعيات الأربع المقاطعة لم تكن شفافة، وكان التكتم على معطيات ونتائج الحوار هو السائد عند المعارضة تحديداً، لدرجة أن أي عنصر في الحوار يدلي برأي شفاف مع الناس عن تفاصيل الحوار يجابه بانتقادات شديدة من رؤساء الجمعيات السياسية.
وفي مقابل هذا التكتم الشديد على نتائج الحوار من قبل المعارضة، يعيش وزير العمل مجيد العلوي مفاضحة سياسية مع الجمعيات الأربع المقاطعة، وكأنه لوحده في الساحة من دون محاورين، ومن دون أجندة حوار، ومن دون اتفاقات بينية، بل وفي قبال ممارسته دور المفاضحة مع الجمعيات المقاطعة بتأكيده أن الهدف من الحوار إقناع المقاطعين بالمشاركة في انتخابات 2006، فهو ينصح الجمعيات الأربع بعدم التصريح الإعلامي، فتستجيب له الجمعيات، في حين يخالف ما يطالب به.
هذه الثنائية المتناقضة في أساليب العمل السياسي، تجعل من الحكومة ورجالاتها طامعين في اغراق المعارضة بالوعود، وثم الانتقال الى الهجوم المباغت، وليس آخرها «فذلكة» لقاء رؤساء الجمعيات الأربع مع السفير البريطاني بغية إنهاء الحوار مع الجمعيات الأربع بطريقة مذلة، ومن ثم مساومتهم على إعادة الحوار من أجل الحوار، إذ انها الوسيلة الأنجع لأي تمطيط سياسي على طريق تقديم التنازلات المجانية.
ثانياً: إن الحكومة مقنعة، ومن خلال خبرة عملية، أن التصعيد معناه المزيد من تقديم التنازلات السياسية إليها او عليها، وبالتالي: فهي تمارس التصعيد لتكثر التنازلات السياسية، وتكثر الأخطاء تحت وطأة الإدارة الفردية للساحة، واختلاف الرموز والمؤسسات السياسية في وجهات النظر، وبروز هذا الاختلاف في صورة اختناق سياسي حاد في المواقف، يؤدي في النهاية إلى وجود الطرفين الذي ينقض كل منهما الآخر، لكون الأول في أقى اليمين، وكون الآخر في أقصى اليسار، ودلالات التصعيد الأخير (لقاء الجمعيات الأربع مع السفير البريطاني) كما تزعم الحكومة، تتلخص في الآتي:
1- الخروج بشروط أقل من المستوى الذي كانت عليه شروط الحوار السابق، عبر إطالة أمد تعليق الحوار بين السلطة والمعارضة، والتعويل على رغبة الجمعيات ولو بعد حين في إجراء حوار بشروط منخفضة، يساعد على ذلك التباين الحاد بين الوفد التفاوضي في نظرته إلى الحوار.
2- التخلص من الشخصيات التي قد تسبب عرقلة لبعض تنازلات الحكومة الشكلية في المسألة الدستورية، بإعطاء الفرصة للجمعيات المقاطعة لإعادة تشكيل الوفد المفاوض عبر تعليق الحوار، والسماح للخلافات الداخلية بشأن تفاصيل الملف الدستوري وعملية الحوار أن تتحرك في الأوساط المعارضة، وخصوصا أن حدث «التعليق» سيجر بعض المعارضين إلى المساومة، وسيجر آخرين إلى التشدد، وهنا سيقع المحذور، في ظل عدم وجود فواصل سياسية بين الحوار كغاية والحوار كوسيلة، واعتبار الجمعيات السياسية أن الحوار ملجؤها الوحيد من خيار عزلتها السياسية الموهومة، وفرصة للدخول في الاستحقاق النيابي المقبل، ولو من خلال تنازلات حكومية شكلية.
3- يقارب هذا التصعيد من قبل الحكومة تجاه الجمعيات الأربع، حركة دؤوبة من أطراف منفصلة، لكنها متفقة على هدف واحد، يسهم في خفض سقف الحوار مع الجمعيات المقاطعة، وليس بالضرورة أن يكون التحرك متصلا مع خطوة الحكومة التصعيدية، ولكنه تحرك يريد أن يبشر بالاستحقاق النيابي المقبل على جرعات وفترات مختلفة ومتصلة بأداء وتحرك الجمعيات الأربع في سبيل المزيد من محاصرتها، مع التلويح بورقة تعليق الحكومة للحوار.
ومن هذه الجهات «الجمعيات الخمس» التي تساوي مع الجمعيات الأربع «الجمعيات التسع» في حسابات السلطة للأثقال السياسية في البلد، وكذلك البرلمان المستعد لنقض غزله وقراراته مليون مرة بشأن التعديلات الدستورية في هذا الدور استجابة للإيقاع السياسي المتناغم الذي تقوده السلطة، «وكل في فلك يسبحون» (يس:36).
إذن ... فتعليق الحوار بسبب زعم الحكومة لقاء الجمعيات الأربع مع السفير البريطاني مجرد الصورة الظاهرة لاستراتيجية قصيرة المدى في سبيل تحسين مخرجات الحوار لتصب في صالح السلطة، في ظل تهالك الجمعيات السياسية على الحوار، حتى لو كان الحوار «حوار طرشان».
هذه الصورة المتعلقة بالمعارضة، فماذا عن صورة السلطة بعد أن صعّدت موقفها، ليس تجاه المعارضة فحسب، وإنما تجاه دولة كانت تتهمها أيام قانون أمن الدولة بأنها كانت تؤوي معارضين سابقين؟
هل تريد الحكومة أن تتعاطى بالأسلوب نفسه أيام كانت تكمم الأفواه، وتنشر ما تشاء من دعايات، وتمارس التشويه لصورة المعارضة والانتفاضة، في ظل عهد الإصلاح الذي أعاد الاعتبار إلى المعارضة والعمل السياسي العلني، وكشف المزيد من ألق تضحيات هذا الشعب المكافح الصابر في سبيل حصول هذه المنجزات؟
يبدو أن الأسلوب الذي مورس مع السفير البريطاني يشي بخطأ الاختيار والخيار، ففي السابق: كان بالإمكان أن تلصق أية تهمة بأطراف كبيرة أو صغيرة من دون أن يدحضها أحد، لأن القمع للأصوات الحرة والشريفة يمنع من رد هذه التهم، ولم يعِ من اختار هذه «التوريطة» أن الناس بعد أن منّ الله عليهم بنعمة الكلام والنقد ومراقبة كل صغيرة وكبيرة قادرون على أن يكذبوا مثل هذه الادعاءات ودحضها،.
فلو «تورط» من لفق هذه الحادثة مع المعارضة لوحدها، لكان الأمر مهضوما، لأن المعارضة تسكت عن حقها، أما أن «يتورط» باتهام دولة أجنبية لها مساهمات في دعم برنامج الحكومة الاصلاحي، نكاية بالمعارضين فحسب، ورغبة في الخروج من الحوار معهم بأية طريقة كانت، فهذا دليل على أن الحسابات القديمة والجديدة كانت خاطئة، ولكنها فيما يبدو لاتزال مستمرة لدى بعض النفوس التي لازالت تحن الى الماضي الذي كان يعطيها المثير على حساب معاناة الآخرين
إقرأ أيضا لـ "سلمان عبدالحسين"العدد 778 - الجمعة 22 أكتوبر 2004م الموافق 08 رمضان 1425هـ