ربما لم نعش أياماً رمضانية كالتي سمعنا عنها من أجدادنا أو شاهدناها عبر شاشات التلفاز من خلال البرامج التراثية والشعبية التي كنا نستأنس بها في شهر رمضان من كل عام... هذه البرامج التي يبدو أن فضائيتنا... فضائية الأسرة العربية... استكثرت علينا متعة التلذذ بما تحويه من عبق الماضي وقيمه الأصيلة... فافتقدناها نظراً وسمعاً وواقعاً معاشاً هو حاضرنا التعيس! وعلى رغم ذلك فإني أشكر الله كثيرا على منحه إياي فرصة التنعم بالبقية الباقية من ذلك التراث وإن كنت أتحسر على ضياعها.

عندما تعود بي الذاكرة قليلا نحو لحظات تلك البقية الباقية من رمضانيات زمان، يشدني الحنين إلى مأدبة الشهر الكريم في البيت الكبير، بيت جدي رحمه الله، ذلك البيت الذي سطرت حيطانه قصصا من تلاحم القلوب نقلها إلينا، نحن الأحفاد، آباء وخلان وأعمام وجيران كانوا يجدون في ذلك البيت ملاذا ومأوى وصحبة وإخوة ونخوة... فنسمع الحكايا ونعيشها في مخيلتنا حلما لا نرغب في الاستيقاظ منه أبدا.

المأدبة، على رغم طولها وعرضها، تحوي أطباقا محددة... أطباقا خاصة بالشهر الفضيل... أطباقا تميزه فعلا عن باقي الشهور... أطباقا كانت توزع على الجيران أولا وربما تتخم بها بطونهم قبل أصحاب الدار أنفسهم!... وكم كنا نستمتع بحمل هذه الأطباق وإيصالها إليهم فنهديهم إياها وننتظر المقابل منهم... وما علمنا بقيمة ذلك التهادي المتبادل لأطباق تكاد لا تميز الفرق بينها إلا في زمن خسرنا فيه حتى لمة الأهل فما بالك بالجيران والمعارف!

شهر رمضان سابقا وحتى سنوات قريبة فائتة، وإن بدرجات متفاونة، كان يعج نشاطا وحركة بين الصغار قبل الكبار... ألعاب شعبية وإن كانت قديمة جدا توارثناها جيلا بعد جيل وبتنا نحييها في الشهر الفضيل فتضيف إليه نكهتها الخاصة ببهجة لا توصف... مباريات لكرة القدم فيها إحياء للفرق القديمة تقام في ساحات غير معدة بتاتا لممارسة هذه اللعبة ولكن لمة أصحابها بالرجوع إلى أيام خلت تغلبت على كل الصعوبات وحولتها إلى قهقهات وهتافات لجمهور غفير لم يعر انتباها لساعات الوقوف الطويلة في مشاهدة مباراة لاعبوها أثقل الفطور حركتهم ولعب الزمن لعبته في نشاطهم وحيويتهم، بل هتف كل محييا فريقه وملتهيا بـ «طاسة باجلة» رايحة وأخرى جاية ممكن أن تلقي بأي مصاب بنقص الخميرة في فراشه... ولكن لا يهم!

وجئنا لزمن هو هذا الزمن الذي رضينا بمتغيراته وطقوسه... ووصلنا إلى شهر رمضان وبحثنا عن شيء مما فات، فماذا وجدنا؟... عوائل تتكون من كم نفر أقفلت على نفسها باب الدار وشمرت عن ساعديها منهالة على أطباق لا يعرف أولها من آخرها تحوي الغرائب والعجائب، وثلاثة ارباعها يرمى للقطط، بينما هناك بطون آدمية تتضور جوعا ولم تجد من يرأف بحالها! وإن فتحت الأبواب وقررت إحياء العادة القديمة بتبادل الأطباق - طبعاً مع من يلقى بالقلب مكانا - فإنها لا تعدو أكثر من مسابقة للوجاهة، الفائز فيها صاحبة الأطباق الأكثر والأغرب!

الصحبة واللمة في شهرنا الفضيل هذا العام اتسمت بالحميمية مع الريموت كونترول الخاص بالتلفاز ومسلسل رايح وآخر جاي... ويا ليت فيها ما يفرح القلب! إذ كأنها في تنافس مع الأفلام الهندية تبدأ بالهدوء وتنتهي بالعواصف، ولكن مصيبتنا أن العواصف هذا العام بدأت من أول لقمة في شهر رمضان وما نعمنا من حينها بالهدوء أبدا!... هذا في داخل بيوتنا أما خارجها فلا تتعب نفسك بالبحث عن أي مظهر يشعرك بأنك في شهر رمضان، فبعكس بيتك الذي صدعت جدرانه «العواصف» يبدو أن الشوارع في إجازة من روادها لتنعم بالهدوء حتى إشعار آخر... فكيف كان وكيف صار؟