أتصور أنه ومهما تكلمنا عن خصوصية الإسلام كدين فإن أية دراسة جادة لمسار الظاهرة الدينية الإسلامية وتحولاتها لا يمكن أن تتم بمعزل عن الظاهرة الدينية في العالم عموما وما نال من حال التدين من تغيرات وتحولات تبدو كونية في كثير من مظاهرها، بل إن الصعود الديني الأخير وما صاحبه من تعاظم حضور الدين في الفضاء العام، كما يبدو جليا في ظاهرتي الفضائيات الدينية والدعاة الجدد، لا ينبغي فصله عما جرى في العالم في العقود الأخيرة من تحولات كونية كان من أهمها ما صار يعرف بنهاية الأيدلوجيا وسقوط الروايات الكبرى وما تبع ذلك أو ترتب عليه من تعاظم حضور الدين في الفضاء العام الذي كان قد صار علمانيا صرفا مع تأسيس الدولة الحديثة.
لقد أدى سقوط الأيدلوجيات الكبرى التي كانت تلهم العالم رؤاه وأفكاره ومشروعاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى تصاعد الطلب على الدين كمصدر رئيس (صار لاحقا مصدرا وحيدا) للمعاني والرموز والطقوس التي يحتاجها الفضاء العام ومجالاته المختلفة ما لم يكن حاضرا فيه من قبل في العصر الحديث، ومن تصاعد الطلب على الدين ليس في السياسة والاقتصاد فقط بل وفي وسائل الإعلام التي بدت أكثر حساسية وتأثرا بهذا التحول كما كانت الأكثر قدرة على تلبية هذا الطلب الديني المتعاظم وخاصة مع احتدام الجدل الدائر والمتصاعد بشأن الدين وسؤال الهوية وموقع الدين فيها وهو جدل يدور معظمه عبر الفضائيات أو البرامج الدينية ويشارك فيه الدعاة الجدد بقسط وافر.
ولم تقف التحولات الكونية عند حدود علاقة الدين بالفضاء العام؛ رموزه وطقوسه ومعانيه بل امتدت أيضا وفي العمق لتنال من الدين نفسه مفهوما وممارسة لتسير باتجاه مزيد من «علمنة» التدين وهو ما تشارك فيه ظواهر مثل الفضائيات الدينية والدعاة الجدد بامتياز.
تتم «علمنة» التدين عبر تحويله من رؤية مؤسسية إلى أخرى فردانية تتأسس فيها علاقة فردية صرفة بين الإنسان وبين المعاني الدينية وتأخذ هذه العلاقة الفردانية شرعية وقبولا اجتماعيا يؤدي في النهاية إلى القطع مع المؤسسية الدينية أو الرؤية المؤسسية للدين، وهذا عين ما تقوم به الفضائيات الدينية بعد أن صنعت نجومها من الدعاة الجدد. فعلاقة المشاهد (جمهور الفضائيات) بالمعاني الدينية تتحول إلى علاقة اختيار ومن ثم مقارنة وتفضيل أساسها القناعة والقرار الفردي، كما يتعامل المشاهد مع التدفق الديني من دروس ومواعظ على هذه الفضائيات بمنطق فرداني بحت، فيما ينفصل ما يقدمه الدعاة الجدد المستقلون تدريجيا عن أية رؤية مؤسسية بحيث تقوم علاقة عرض وطلب بينهم وبين الجمهور يقدمون فيه عرضا دينيا يناسب ويلاءم ويلبي الطلب الديني للجمهور ونوعيته!
ومرة أخرى تتم «علمنة» التدين عبر نقل النقاش حول الدين إلى الفضاء العام وليس إلى دوائر العلماء والمختصين، والفضاء العام هو عادة فضاء علماني بامتياز يقوم على الحوار والنقاش فيما يسمي بالديمقراطية الاتصالية التي تلعب فيها الميديا دورا محوريا، إذ تسرع الميديا -وفق منطق المنافسة - وتيرة النقاشات الدينية على أساس من الحوار والاختلاف وتزايد الخيارات الفردية... وشيئا فشيئا تتلاشى فكرة الحفاظ على رؤية أو تفسير ثابت أو وحيد أو حتى متفق عليه للنص الديني وهذا هو جوهر علمنة الدين.
بتعدد المراجع الدينية الذي تساهم في خلقه الفضائيات الدينية ودعاتها الجدد تتعدد بدورها الفتوى الدينية بعدما تحول الدين إلى المجال الفرداني غير الجماعي (الذي هو أصل الإسلام)، وتدار تلك التعددية وفق منطق الاختيار والعرض والطلب الذي هو منطق السوق.
إن قراءة معمقة لظواهر مثل الفضائيات الدينية والدعاة الجدد لا يمكن أن تبعد بهما عن كونهما نتاجا لمنطق السوق سواء في تعامله مع الدين من خلال تعددية تفرض منطق الاختيار ومن ثم العرض والطلب كما أسلفنا، أو من خلال كونهما يقومان على إدخال «الدعوة» نفسها ضمن منطق السوق من ناحية قوانين العرض والطلب وما يتبعها من مفردات أهمها ما صار يعرف - ربما لأول مرة في تاريخ الإسلام- بحقوق الملكية الفكرية للدعاة! وهي حقوق توفر لصاحبها/ الداعية حجية ملاحقة كل من لا يقر له بالملكية الفكرية للمنتج الدعوي ويؤدي له مقابلا ماديا عنه! كما صار يفعل داعية مثل عمرو خالد الذي طالب في آخر قضاياه بشأن حقوقه الفكرية بتعويض قيمته المليون جنيه!
كما يمكن أن نرصد في هذا الصدد أنماطا من علاقة «السوق» بين هؤلاء الدعاة وبين أرباب هذه القنوات من توظيف واحتكار وتنافس؛ إذ يوقع الداعية مع القناة حق احتكار حصري يمنع بموجبه من تقديم دروس الوعظ الديني (الدعوة!) في أية قناة أخرى (منافس آخر!)، وهو نمط من العلاقات يؤثر في جوهر المضمون الديني المقدم خاصة في بعض القضايا المتعلقة بطبيعة عمل هذه القنوات واستثماراتها، وفي هذا يمكن التوقف كثيرا عند علاقة الداعية عمرو خالد بالمستثمر ورجل الأعمال السعودي صالح كامل صاحب قناة اقرأ (التي كانت تبث برامج عمرو) وباقة قنوات «الإيه آر تي» التي تعمل بنظام الشفرة ويؤدي عنها اشتراكات مالية. ففي ضوء هذا النمط من علاقة «السوق» أفتي عمرو خالد (على رغم أنه دائم التأكيد على أنه داعية وليس مفتيا!) بحرمة وصلات الستالايت التي انتشرت في معظم البلاد العربية الفقيرة للتحايل على المنع الذي يتيح لمشتركي هذه القنوات المشاهدة الحصرية لبعض البرامج والمباريات التي احتكرت القناة حق بثها حصريا!
إذن؛ تؤسس الفضائيات الدينية ونجومها من الدعاة الجدد لما يمكن اعتباره علاقة استهلاكية بالدين وفق تسمية الفيلسوف الفرنسي باتريك ميشيل، وهي علاقة يتعامل فيها المشاهد مع الدين بشكل استهلاكي فيختار منه العرض الديني المناسب له من خلال مقاييسه الخاصة بحيث يختار من الدين المساحة أو الفضاء والحيز المريح وغير الإجباري بعيدا عن أي نظام قيمي يحمل في طياته الإجبار، ووفق هذه العلاقة الاستهلاكية بالدين سيكون للفرد/ المشاهد إمكان رفض هذا العرض الديني في حال عدم قبوله ليبحث (لدى داعية آخر في فضائية أخرى) عن عرض ديني أكثر قبولا!... إن علاقة المشاهد بالفضائية الدينية لن تختلف كثيرا عن علاقته بقائمة الفضائيات التي يوفرها لها نوع القمر الفضائي الذي يشترك به، بل إن علاقته بالداعية الفضائي لن تبعد كثيرا عن علاقته بمغني الفيديو كليب الذي يمكن أن يختاره من بين آخرين كثر تكتظ بهم القنوات الفضائية. فالمعيار واحد: استهلاك لما فيه راحة الفرد!
تصنع الفضائيات دعاتها الذين يكونون على شاكلتها يتشابهون فيما بينهم حد التنميط حتى يصح القول أن ما يجمع بين الدعاة التلفزيونيين عبر العالم أكثر ما يفرقهم أيا كانت دياناتهم، ومن ثم فلم يكن غريبا هذا التشابه الكبير بين الدعاة الجدد في العالم الإسلامي وخاصة عمرو خالد وبين نظرائهم الإنجيليين في الولايات المتحدة الذين كانوا الأسبق ظهورا، على أن التيمة الأساس التي تجمع بينهم هي تيمة «النجم»: الداعية النجم أو النجم الداعية وما تقوم عليه من منطق دعائي تسويقي أساسه صناعة النجم الذي يتأيقن ويصير أيقونة تحمل قيمتها في ذاتها، ليتحول لاحقا إلى ماركة تجارية!
لم تكن فكرة الداعية « النجم» يوما أصيلة في فضاء الدعوة الإسلامية، بل هي وليدة منطق السوق وزمن الدعوة في الفضائيات، وقد أشاعها الدعاة الجدد في الحقل الدعوي على رغم أنه «يفترض» أن يختلف تقليديا حد التناقض مع فكرة النجومية، فـ (الحق لا يعرف بالرجال ولكن يعرف الرجال بالحق واعرف الحق تعرف أهله) وحيث ثقافة راسخة في رفض الشهرة والحذر منها والتحذير من عواقبها.
العدد 2380 - الخميس 12 مارس 2009م الموافق 15 ربيع الاول 1430هـ