بعض الناس يظن أن العنف الأسري، هو «العنف الجسدي» الموجّه ضد الأسرة من قِبل أحد أعمدة البيت، ولكن من يظن ذلك فهو مخطئ، فالعنف الأسري يمتد إلى قنوات كثيرة منها «العنف الفكري»، الذي لا يلمس الجسد بل يدخل إلى مكامن الفكر والروح، ويجعل الأسرة في حالة رعب من هذا الوالد أو الأخ أو الأم في بعض الأحيان.
فالكلام اللاذع والتشدّق بالقول البذيء والمسيء، يجعل الفرد داخل الأسرة يتوجّه إلى العديد من المخارج، ليهرب من هذا العنف، ويكون في أغلبه مخرج خبيث لا يفيد الفرد ولا المجتمع، ولكن يفيد فئات الضلال المنتظرة للأسر المتصدّعة، حتى تنقضّ عليها.
ويؤلمني ذلك الموقف الذي مرّ بي في إحدى السنوات، عندما وجدت فتاة أعرفها تدخل أحد الفنادق بصحبة صديقتها، فانتظرتها حتى تخرج، وباغتّها بالسلام عليها مع أنها كانت تحاول الهروب مني.
وعندما سألتها عن أحوالها وعن أوضاعها أخبرتني بعملها، فلقد كانت تثق بي في أمورها الأسرية وتستشيرني في السابق عن مصائبها، ولا أخفيكم القول بأنني صدمت بتلك الفتاة الرقيقة، التي كانت تُضرب بها الأمثال من أخلاقها العالية، أن تعمل عمل «العاهرات»!
لقد تدمّرت هذه الفتاة وكان أول من دمرها هو والدها، فلقد كان عنيفا معها، جافَّ اللسان ومقطّبَ الحواجب في كل الأوقات، وكان يتعاطى المسكرات بإدمان، فيُلقي عليها الكلام السيئ هي وإخوتها، حتى إذا فاض به الكيل حرمها في يوم من الأيام من مواصلة الدراسة، وهي في السنة الأخيرة بمدرستها الثانوية!
حاول العديد من الوسطاء التدخّل، حتى يوقفوا هذا العنف الفكري والدامي لقلب فتاتنا، ولكن من دون جدوى، فلقد كان الوالد غليظ القلب وأسود التصرفات، وكان لا يرضى أن يتدخل أحد في حياته الأسرية.
وعندما أخبره البعض بأنه عنيف مع أسرته، كان ردّه: وأين هو العنف، وأنا لم أضرب أي أحد منهم يوما!
كان يردد على فتاتنا كلمات مؤلمة لا تُكتب، وفي يوم بائس قام الرجل بإحراق كل أغراض ابنته، من دون سبب ومن دون وجه حق، فقط ليثبت لها قوّته وجبروته عليها، ولكنه لم يعلم بأنّه أحرق قلبها، وقدّمها على طبق من فضة إلى مصيرها الأسود.
وكانت الخاتمة هروب الفتاة من عش الأسرة غير الدافئ، إلى وكر بعض الخبثاء الدافئ، هذا الوكر الذي جرّها إلى طريق الشقق المفروشة والفنادق الرخيصة، التي تتاجر بالبشر!
لقد جنى الأب على ابنته، بأنانيته وعنفه الفكري وقسوته غير المقبولة، بل وعصر قلبها وجرح كيانها ودمّرها رأسا على عقب، ففي بعض الأحيان لا نحتاج إلى سوط لنعذّب من يحبنا، وإنما إلى أخلاق في الحضيض حتى ندمّر أسرتنا، والأمر بسيط ومعقّد ولا يشعر به إلا من «يعانيه».
إقرأ أيضا لـ "مريم الشروقي"العدد 2380 - الخميس 12 مارس 2009م الموافق 15 ربيع الاول 1430هـ