«فقط حين ننجح في وضع تصورات اقتصادية أمام الناس، هناك حيث ولدوا، لن يصبح بوسع القوى المتطرفة إساءة استخدامهم»، هذا ما قاله المستشار الألماني غيرهارد شرودر خلال زيارته القصيرة إلى الجزائر وكان قد قال كلاما مشابها قبل يوم في ليبيا حين كشف عن وجهة نظره، بالإشارة إلى أنه من شأن ذلك أن يسهم في مواجهة التهديد الصادر عن الإسلام المتطرف والإرهاب. وعلى رغم وجود وجهات نظر مختلفة مع الزعيم الليبي معمر القذافي والرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، يرى شرودر أنه من المفيد الحديث معهما.
من وجهة نظر الحكومة الألمانية نجح بوتفليقة في تحقيق الاستقرار داخل الجزائر بعد سنوات سادها العنف. قال شرودر يوم السبت: يريد بوتفليقة تطوير بلده وتحقيق دولة القانون ونشر الديمقراطية والعمل بسياسة اقتصاد السوق. تجنب المستشار استخدام مثل هذه العبارات حين تحدث عن القذافي إذ كان الخلاف واضحا معه بشأن التركيبة الداخلية للبلد. لكن كان واضحا لشرودر ومعاونيه أن القذافي يريد الخروج من عزلته كما يريد التعاون في الحرب المناهضة للإرهاب. وحسنت أجهزة الاستخبارات التابعة للبلدين تعاونها في هذا السياق.
يعتقد المستشار شرودر أنه من خلال سفره إلى ليبيا والجزائر عمل بما يسمى سياسة واقعية والسعي لرعاية المصالح. أنه لا يريد التعمق في التحول الذي تمر به سياسات القذافي على رغم أنه سجل ذلك بعناية إلا أنه يبحث الآن عن تصور لهذه العلاقة الجديدة لضمه في سياسته الخارجية. هناك أهداف اقتصادية وسياسية وراء سفر شرودر إلى البلدان العربية. وفتحت سياسته تجاه العراق الأبواب في العالم العربي أمام الاقتصاد الألماني. هذه السياسة حصلت على إشادة عريضة حين زار المستشار بعض البلدان العربية الخليجية في العام الماضي وكان قد زار قبلها دولاً مجاورة لـ «إسرائيل» والآن زار منطقة شمال إفريقيا.
في ضيافة القذافي كان اختلاف وجهات النظر واضحا. ذلك أن الزعيم الليبي يرى في انسحاب القوات الأميركية من العراق الحل الوحيد المناسب لإحلال السلام في العراق. أعرب شرودر عن موقف مناهض حين أبلغ القذافي أن انسحابا غير مشروط للولايات المتحدة لن يحقق الاستقرار بل سينشأ بعده قلاقل. أما الرأي المتعلق بصراع الحضارات فإنه فلسفي ليس أكثر لأن شرودر يجد في القذافي أيضا شريكا والشيء نفسه إنما بصورة أكبر تجاه بوتفليقة إذ خاطبه بالقول: السيد الرئيس، الصديق العزيز. في مواجهة الأحكام المسبقة خصوصا التي تستهدف الإسلام والمسلمين لا يجد شرودر أهم من تعميق الصلات والروابط بين بلدينا ردا على مقولة صراع الحضارات. هذا ما قاله شرودر في الجزائر. يتحدث شرودر عن حوار الثقافات وفي باله العلاقات الاقتصادية وتشجيع المبادلات التجارية. ووجود وفد اقتصادي كبير يرافقه في الزيارتين أبرز دلالة على ذلك.
أشاد شرودر بنهاية العمليات الإرهابية في الجزائر كما وصف ألمانيا بأنها من أبرز الدول التي تعرف العالم العربي جيدا. من جانبه أيضا حذر الرئيس الجزائري من خطر صراع الحضارات وحث على ضرورة تعميق العلاقات الاقتصادية مع ألمانيا كرد على صراع الحضارات وقال إننا بحاجة إلى رؤية بعيدة المدى وإلى استراتيجية واقعية تقوم على عاملي السلام والاستقرار. في هذا الإطار تعتزم الحكومة الألمانية دعم رغبة الجزائر في الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية ومنحها اعتباراً أكبر عند وضع خطط الاتحاد الأوروبي وتعميق العلاقات التجارية بين الاتحاد الأوروبي ودول المنطقة.
يفكر شرودر أيضا بالسياسة الأمنية وهو يراقب بقلق منذ بعض الوقت عدم استقرار الأمور في عدد من الدول العربية ومن ضمنها السعودية وينظر بقلق أيضا إلى الاحتمالات الصعبة في حال تمسكت إيران ببرنامجها النووي. يجري نقاش داخل الاتحاد الأوروبي عن البحث عن أطراف لعقد تحالفات معها ومنع نشوء نزاعات جديدة. هناك وجهات نظر مختلفة بشأن دولة القانون والديمقراطية وتعتقد الحكومة الألمانية أن إمكانات التأثير على النفوذ في المنطقة محدودة جدا.
رافق هانز يورغين فيشنيفسكي المستشار في الزيارتين. أنه رجل الدبلوماسية الهادئة. منذ عقود من الزمن اهتم بن فيش بالعلاقات مع الدول العربية كما ساعد جبهة التحرير الجزائرية. رحب به القذافي وبوتفليقة كصديق قديم. الدور الأخير الذي قام به بن فيش كان التوسط لإنهاء قضية(لابيل) التي ساهم حلها في تحقيق زيارة المستشار إلى ليبيا. من الأسباب الأخرى التي تم ذكرها أيضا، ما تم وصفه بنتائج سياسة الانفتاح على الشرق التي أوجدها المستشار الاشتراكي الراحل فيلي برانت. هذه السياسة ساهمت في تحقيق الانفتاح في بلدان المعسكر الاشتراكي السابق في أوروبا الأمر الذي قاد إلى نشر الديمقراطية فيها وانفتاح سياستها الخارجية وتشجيع حركة التجارة. أليس من الممكن أن ينطبق هذا أيضا على ليبيا؟ بأي حال ترفض الحكومة الألمانية التعامل مع الدول العربية بسياسة فرض المواقف عليها ودعوتها إلى تبني الديمقراطية بالنمط السائد في الغرب.
ويسمع المسئولون الألمان أيضا الرأي القائل والمناهض لدعوة نشر الديمقراطية الغربية في العالم العربي: كيف سيكون موقف الغرب إذا تمت عمليات انتخابية في العالم العربي وفاز الإسلاميون بها؟ يفضل شرودر التعامل بهدوء في تحقيق الانفتاح السياسي ويحذر من ممارسة الضغط على العرب لأن التغييرات المؤمل بها ينبغي أن تصدر من الداخل. حاول القذافي استمالة شرودر لمناهضة السياسة الأميركية الأمر الذي رفضه شرودر بعد أن سمع القذافي يدعو الاتحاد الأوروبي للوقوف في مواجهة الولايات المتحدة.
كما رفض شرودر اتهام الولايات المتحدة بأنها سبب كل البلاء في العالم العربي. على رغم ذلك يعتقد شرودر أن الطريق الذي قرر القذافي السير فيه طريق صحيح وينبغي تشجيع سياسته الجديدة
العدد 776 - الأربعاء 20 أكتوبر 2004م الموافق 06 رمضان 1425هـ