منذ أكثر من ثلاثة عقود والتشيليون منشغلون بالبحث في قضية قتلة فيكتور غارا، المغني والمؤلف المعروف دولياً، الذي اعتقل مع آخرين وتم تعذيبه وقتله في استاد رياضي بالعاصمة سانتياغو بعد فترة وجيزة من الانقلاب العسكري في تشيلي العام 1973 والإطاحة بحكومة سلفادور اليندي الشعبية المنتخبة على يد الدكتاتور السابق أوجستو بينوشيه وبمساعدة أميركية مازالت وصمة عار على الإدارات الأميركية لوقوفها ضد التطور السلمي نحو بناء المجتمعات الديمقراطية في أميركا اللاتينية والعالم، ووقوفها مع الدكتاتوريين يوم كانت مصالحها معهم.
ولأن «بقاء الحال على ما هو عليه من المحال»، كما يقولون، فقد أمر قاضي تشيلي، الدكتاتور بينوشيه بالإدلاء بشهادته كتابياً في قضية تعذيب وقتل غارا، فيما يعكف المدعون على تحديد المسئول عن الاستاد في ذلك الوقت، في تزامن مع الأمر القضائي لعدد من الجنرالات السابقين في الجيش بالإدلاء بشهاداتهم بشأن هذه القضية التي لم تسقط بالتقادم.
والأكثر من ذلك، يواجه بينوشيه تحقيقات بشأن إخفائه ملايين الدولارات في مصرف سري أثناء وجوده في السلطة، في حين تحاول المحكمة التشيلية العظمى الفصل في استئناف تقدم به محامو الدكتاتور عقب قرار المحكمة برفع الحصانة عنه لمحاكمته بعملية «كوندور» التي استهدفت المعارضين في الأنظمة العسكرية بأميركا اللاتينية.
فيكتور غارا، يعاد له الاعتبار الآن، ويجري البحث بجدية له كمؤسس للأغنية التشيلية الجديدة التي أصبحت شرائطه معروفة دولياً بعد أن فرّت زوجته سراً عقب استشهاد زوجها بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب سلفادور اليندي بمساهمة أميركية جلية للفاشية التشيلية آنذاك، وهذا الدرس القادم من تشيلي هذه المرة في محاكمة منتهكي حقوق الإنسان والجنرالات والدكتاتوريين، ينبغي حفظه «عربياً» عن ظهر قلب؛ لأننا لم نسمع عن «فزعة» محامين من أميركا اللاتينية لإثبات براءة بينوشيه وفظاعته ضد الفنانين والمثقفين والسياسيين الديمقراطيين المالمين وقتلهم خارج نطاق القضاء بتهمة إنهم «يشكلون خطورة» على السلطة، كما يحدث الآن في أكثر من بلد عربي للدفاع بحمية غير مفهومة عن دكتاتور العراق السابق صدام حسين ووحشيته، والحماسة التي يبديها البعض بتشكيل اللجان وإصدار البيانات «الطنانة، الرنانة والنبّاحة» للدفاع عنه وعن حاشيته المهزومة «فقهاء الدم» من دون الاعتراف بأن مرحلة نظامه القمعي انتهت بشرها وسوئها.
أميركا اعترفت بأخطائها لمساندتها الدكتاتوريين في العالم لخمسة عقود بعد أن أصبحت هذه الدكتاتوريات وبالاً عليها، وهي الآن لا تجرأ أن تدافع لا عن بينوشيه وزمرته، ولا عن أية دكتاتورية في أي مكان، وأصبحت تشجع التحولات نحو الديمقراطية في الأنظمة القمعية وتحثها على «العدالة الانتقالية»، فيما يظل جل العرب على حالهم من دون إصلاحات داخلية بانتظار «غزو يطيح بأنظمتهم ليظهروا بمظهر الأبطال والشهداء»... وما إلى ذلك من قصص تفيض منها رائحة «النخوة العربية الكريهة» في ممارسة الاستبداد على شعوبها، وحين يرحل حاكمها المستبد يتحول في مخيلة الشعوب إلى «مستبد عادل» لأنه قاوم أميركا المتجبرة وتنسى فظاعاته ضد شعبه!
الدكتاتور بينوشيه عندما أطاح بحكومة اليندي الراحل، نعت أعضاء الحكومة الشعبية اليسارية المنتخبة، بأنهم «ليسوا من الشعب»، ما دعا الأمين العام للحزب الشيوعي التشيلي لويس كرفلان إلى كتابة مذكراته الشهيرة في السجن: «شيء من حياتي» ليثبت أنهم من عامة الناس ولم يأتوا من الفضاء الخارجي من دون أن يتحدث في السياسة، لتصبح هذه المذكرات برنامجاً سياسياً في تشيلي التي بدأت الآن ترد عافيتها بعودة الحياة الديمقراطية إليها، فيما بينوشيه تطارده العدالة والمحاكم داخل سانتياغو العاصمة، وخارج حدود تشيلي كنتيجة طبيعية لكل دكتاتور يأتي إلى السلطة ولم يفرح به أحد، ويغادر السلطة ولم يحزن عليه أحد
العدد 774 - الإثنين 18 أكتوبر 2004م الموافق 04 رمضان 1425هـ