هناك سمعة ملتصقة بنا نحن البحرينيين باننا «شعب مثقف»، بل ان الكثيرين منا مازالوا يوالون اسماع الآخرين من العرب والاجانب بأننا شعب مثقف، لكن هذا الحكم مثل غيره من الاحكام التي تعايشنا معها فترة من الوقت، أصبح موضع شك ويحتاج إلى المراجعة والنقاش.
دعونا نتساءل ما هو مقياس هذا الحكم؟ ما هو مقياس الحكم باننا شعب مثقف... هل هو انتشار عادة القراءة؟ انتشار القراءة لا يكفي للحكم على شعب ما بانه مثقف، لان القراءة في أزهى عصورها في أي مجتمع ستبقى سلوكا نخبويا ولان الذين يقرأون سيبقون فئات من الناس وليس رقماً كبيراً من السكان. اما أرقام توزيع الكتب فهي جديرة بان تجعلنا ندرك مقياس انتشار القراءة على حقيقته، كم نسخة يوزع أفضل الكتب مبيعاً في البحرين؟ المئات أم الآلاف قياساً الى عدد السكان؟. اسألوا المكتبات، الارقام دوماً بالعشرات.
هذا المقياس قد يكون مضللاً، فهل يكون المقياس نوعية الكتب التي يقرأها البحرينيون؟ القائمة طويلة من كتب التراث والتاريخ والمذكرات وفنون الطبخ وحتى كتب الصحة النفسية والعلاقات الزوجية وتربية الاطفال، فان التنوع في الكتب لن يقودنا الى أي مكان. لا تتعبوا انفسكم كثيراً، فالقراءة والكتب ليست هي المقياس النهائي للحكم على شعب ما بانه مثقف. نحتاج هنا لاستدراك مهم هو الأثر الذي تتركه القراءة أو التعليم، أي ما يحوّلها إلى قيمة حقيقية، سواء في الحياة اليومية أو في الكيفية التي يتعامل بها الناس والمثقفون منهم مع مجتمعهم.
في تعاملهم مع المعرفة والثقافة، مازال البحرينيون يعانون بقوة من جملة من الاعراض والسلوكيات التي تباعد بينهم وبين أن يكتسبوا ذلك الحكم عن جدارة.
انظروا ماذا يجري في الندوات، الكثير من الكلام والقليل من الاسئلة. قلّما تجد من جمهور الندوات - أياً كان موضوعها - من يسأل، قلما تجد سؤالاً يطرح بغرض المعرفة الحقيقية بل في سياق المماحكات والجدل المتكرر الذي لا يتحرك قيد أنملة. فجمهور الندوات حتى المثقفين منهم يذهب الى الندوة حاملاً معه أحكامه سلفاً. واذا وجدت من يقدم ندوة متخصصة أنجزها بشكل علمي وطرح جديد فيها، فان الحاضرين قلما يتفاعلون معه بالاسلوب نفسه، الكثير من المداخلات والقليل من الاسئلة لان «السؤال» في الثقافة العامة الشائعة «رديف للجهل». القليل من المتحدثين يستهل كلامه أو عرضه لوجهة نظره بمفردة «أعتقد» لان مفهوم نسبية المعرفة لم يترسخ بعد لدينا. فكل من يحمل وجهة نظر معينة تبقى نهائية وقطعية، وكل من يقرأ كتاباً ما فانه سيتصرف وكأنه الوحيد الذي قرأ هذا الكتاب، وسيتحول هذا الكتاب الى مصدر للاحكام النهائية. على هذا النحو فان جدلنا دائماً عقيم.
في السنوات القليلة التي مضت، أشعر دوماً بالذهول وأنا أستمع الى اولئك الذين انخرطوا حديثاً في مهنة الصحافة. قلّما تجد لديهم ميلاً للسؤال وحس الاستقصاء لديهم شبه معدوم. أحكامهم نهائية وقطعية، وياللمفارقة عندما يناقشونك في أوضاع الصحافة وقضاياها ودواخلها. أربعة وعشرون عاماً قضيتها في هذه المهنة، لكن عندما تستمع لهؤلاء تشعر بالذهول إزاء من يسمعك أحكاماً نهائية وقاطعة لا تقبل الجدل عن مهنة تعايشها منذ أكثر من عقدين.
مادام الحديث عن الصحافة، ذهلت وأنا أتابع حرية التعبير الناشئة تردني الى سنوات وراء، ما الذي يجري؟ صحف جديدة تتأسس لكن ثمة قطيعة واضحة في الخبرة والتقاليد الصحافية، وكل هذه الصحف الناشئة لا يمكن أن تضيف في النهاية رصيداً لتقاليد مهنية ما، لا إدارياً ولا مهنياً. يأتي كل مشروع صحافي جديد مستنسخاً المشروعات القديمة في كل أشكال الاخفاقات التي عشناها وعملنا جاهدين على تجاوزها في سنوات مبكرة. السبب أن أصحاب المشروعات لا يكلفون أنفسهم عناء السؤال والبحث والاستقصاء الدقيق، لا يملكون خاصية الاستماع. ولم لا وهم بهذا يبرهنون بجدارة على أنهم منا: كثير من الالسن التي تتحدث وقليل من الاذان التي تصغي.
القراءة ليست مقياساً للحكم على شعب ما بأنه مثقف، النقاش والجدل المحكوم دوماً بالنظريات حتى أحدثها لن يكون مقياساً دقيقاً للحكم على شعب ما بانه مثقف. هناك الذكاء العملي المفقود بقوة لدينا، وهناك «نسبية المعرفة» المفقودة تحت سطوة هذا الميل المتأصل لاختزال البشر والآراء في كتل صماء نتعامل معها بتعميمات مطلقة. هناك إهمال كبير للتفاصيل يعبر عنه هذا الميل للتعميم واهمال الاسئلة والبحث الدقيق، هذا لا يفعل سوى أن يباعد بيننا وبين خاصية «الاصغاء». من لا يسأل لا يصغي، ومن لا يصغي لا يريد أن يتعلم، لذلك اصبحنا نتعامل مع المعرفة بقليلٍ من التعميمات اللازمة والمصطلحات المتداولة لكي نشعر بأننا مثقفون
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 774 - الإثنين 18 أكتوبر 2004م الموافق 04 رمضان 1425هـ