إنه المرحوم الكاتب والصحافي والإنسان والصديق محمود المراغي، الذي وافاه الأجل بمصادفة فَظة، وهو يعبر شارع الهرم في القاهرة - ليس بعيداً عن منزله - من سيارة طائشة لم يكن ليضير سائقها لو تأنى قليلاً، وأعطى المراغي بعضاً من فرصة العمر، ولكنه القدر .
لقد عرفت المراغي شخصياً منذ أكثر من ربع قرن في الكويت، وكان وقتها مديراً لتحرير صحيفة «الوطن» الكويتية في السنوات الأخيرة من عقد السبعينات، والأولى من الثمانينات، واستمرت تلك العلاقة سخية العواطف بعد عودته إلى القاهرة، ولا أذكر أن مررت بالقاهرة إلا وتناولنا عشاء مع أصدقاء في مكان يحبه، وهو النادي اليوناني في غاردن سيتي، حتى أصبح مشهوراً بالمراغي وأصدقائه، نتبادل الأفكار ونسمع من محمود أفضل التحليلات في الشئون العامة.
عشرات الصحافيين يمكن أن تلتقي بهم، إلاّ أن مواصفات محمود المراغي مختلفة، فهو هادئ الطبع رزين الفكر، واسع الأفق، شديد التواضع، عف اللسان، كثير الأصحاب والتلاميذ، يلازمونه في العمل وفي الحياة وفي طريقة الاتصال الصحافي المحايد، وكثيراً ما أوصى تلاميذه بالالتحاق بهذا العمل الصحافي أو ذاك، والكثير منهم حفظ له الود والاحترام.
لم يكن المراغي من دون رسالة، فقد كان صاحب رسالة يدل عليها التزامه بالعمل في نوع متقارب من المؤسسات الصحافية والمجلات المختلفة ذات المنحى الهادف، فقد كان رئيساً لتحرير صحيفة «العربي» الناصرية، و«الأهالي» المصرية اليسارية، ومجلة «روز اليوسف» المصرية المعروفة، ثم أمين عام الصحافيين العرب، ووكيل نقابة الصحافيين المصريين، وعضو المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وكل هذا التاريخ المهني الطويل، هو تاريخ التزام من نوع ما، إلاّ أن قيمة محمود المراغي الفكرية أنه لم يكن مغلق الذهن وأحادي النظرة في مقاربته لشئون الحياة العامة وخصوصاً السياسية، بل كان منفتحاً قابلاً للرأي الآخر، متى ما وجد فيه قناعة عقلية، لذلك لم يكن ليخضع مهنياً للون واحد، فقد كانت الصحافة لديه مهنة عالية المستوى تتصف بالالتزام والأخلاق معاً، فإن تعارضا ترك موقعه غير نادم.
إلا أن دماثة أخلاق المراغي التي أسرت محاوريه، جعلته ضيفاً أيضاً على من يختلفون معه في الرأي، فكان يوماً محاوراً في الموقع المعروف «إسلام اون لاين»، الذي استضافه للحديث في الشأن الاقتصادي المصري والعربي.
مهنية المراغي العالية وأخلاقه الرفيعة وموضوعيته، منعت منتقديه ومخالفيه من تجريحه أو الخوض في خلاف حاد معه، بل نظرت إلى وجهة نظره باحترام وتقدير. استضفته في الثمانينات الماضية كاتباً مستمراً في مجلة «العربي» الكويتية في موضوع لا يملّ الحديث فيه، وهو دلالة الأرقام، وكان هذا عنوان زاويته الشهرية التي استمر يكتبها لسنوات طويلة، يستعرض فيها الأرقام الدالة على مشكلات العرب في كل مجال، وخصوصاً المجال الاقتصادي، ويقوم بتحليل تلك الأرقام ويعرض دلالتها ويقارنها بأرقام دول ومجتمعات أخرى، الأمر الذي جعل موضوع الأرقام شبه هواية بجانب كونه عملاً. وقد طلبت منه في الأشهر الأخيرة أن يكتب الموضوع بشكل مبتكر للنشر في المجلة الجديدة «حوار العرب»، التي تزمع مؤسسة الفكر العربي إصدارها في الشهر المقبل، وقد كتب فعلاً الحلقة الأولى من الموضوع، ولم يسعفه الزمن ليقرأها فغادرنا قبل النشر.
المراغي اهتم في حياته المهنية بعدد من القضايا، منها ما تعنيه الأرقام من الزاوية السياسية والاقتصادية والاجتماعية ودلالاتها للوضع العربي في مختلف مجالاته، والأمر الثاني هو الحريات الصحافية والمهنية، إلاّ انه كان رحمه الله كاتباً شمولياً أيضاً، وباحثاً لا يتورع عن سبر الموضوعات الجديدة بالجدية نفسها التي يتناول بها موضوعاته المعهودة الأخرى.
في بعض مراحل المراغي الصحافية عندما كان ممارساً مباشراً للمهنة الصحافية، كان مدرسة، فهو في الكويت عندما كان مديراً لتحرير «الوطن»، خلّف مدرسة من تلاميذ صحافيين أوفياء كثر، فلم يكن يبخل بالنصح المهني أو الفني، بكل دماثة وكرم، وفعل ذلك مع زملائه في كل مناصبه الرسمية، حتى خلّف مدرسة واسعة في الفن الصحافي الملتزم.
المراغي لم يكن كاتباً ملتزماً وصحافياً خبيراً فقط، بل فوق ذلك كان باحثاً منقباً ومحاضراً ذا تأثير، في موضوعه الأثير وهو حرية الصحافة ومهنيتها وأخلاقها. دعته المؤسسات العربية التي تهتم بالتدريب الصحافي والمهني كثيراً الى محاضراتها التدريبية، في دبي والكويت والدوحة والمغرب ولبنان والرياض، وكثير من المدن العربية والمؤسسات الصحافية. إنه الصحافي الشامل، كما يوصف ذلك الصحافي المُلم بحرفية مهنته والمحترم لها في الوقت نفسه. كما شارك في عدد كبير من المؤتمرات العلمية الخاصة بالصحافة كان آخرها المؤتمر الذي عقدته المنظمة العربية لحرية الصحافة في الأسبوع الأول من يونيو/ حزيران الماضي في العاصمة المغربية الرباط، تحت عنوان «تحرير الإعلام من تدخل الدولة»، إذ قدم ورقة أفاضت عليها تجربته ورؤيته حيوية في النقاش.
كتب مقالاً عن العراق في نهاية العام الماضي استوقفني، فقد قال فيه: «إن العام 2004 سيكون عاماً حاسماً، والسؤال أين ستكون نقطة الحسم!» ولعله أجاب على سؤاله بنفسه، فلم يكن يعرف وقتها أن نقطة الحسم لأصدقائه في العام الذي حدّد، هو مغادرته الفجائية من دون وداعٍ أو إنذار.
المراغي كان مهموماً باقتصاد بلده مصر أولاً، ثم باقتصاد الدول العربية، الذي وجد أنه اقتصاد غني بالموارد، فقير القدرة على استثمارها، بسبب ثقل البيروقراطية وقصر النظر السياسي. أسبوع وراء آخر يتحدث عن مشكلات الاقتصاد، وعلى رغم تكوينه الاشتراكي فلم يكن معادياً للانفتاح واقتصاد السوق، فلم يكن إيديولوجياً صرفاً، بل وضع أصحاب رأس المال لا كما يضعهم آخرون من المؤدلجين (مصاصي دماء الفقراء وجشعين لجمع المال) بل كان يؤكد أنهم، متى ما انتظموا تحت مظلة القانون، هم (صناع مشروعات، ومنظمون من الدرجة الأولى)، وهذا دليل على أن المراغي كان رجلاً عقلانياً ومتوازناً، لا إيديولوجياً يعمى عن حقائق الحياة.
سبق وفاة المراغي وفاة أولى زوجاته وأطولهم ربعةً معه، المرحومة نجاح عمر والدة ابنيه الاثنين، وهي قد توفت أيضاً فجأة في العام 1991، بعد أن رافقته في معاركه الصحافية، كونها صحافية في مجلة «روز اليوسف»، التي تلازما فيها شباناً، ولها الكثير من المساهمات الصحافية إذ كانت مراسلة المجلة في مجلس الشعب (الأمة سابقاً)، إلاّ أنها كانت تشبه محموداً في دماثتها وخلقها الكريم. إذا كان المراغي أصبح جزءًا من إحصاءات حوادث المرور في القاهرة، فقد خلّف الكثير من المقالات والكتب والمحاضرات والتلاميذ الذين يحملون ذكراه العطرة وهو يغادر هذه الدنيا الفانية قبل أيام من رمضان... رحمه الله
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 774 - الإثنين 18 أكتوبر 2004م الموافق 04 رمضان 1425هـ