العدد 774 - الإثنين 18 أكتوبر 2004م الموافق 04 رمضان 1425هـ

ماذا بعد إغلاق المراكز والأندية؟

هل نجحت سياسة «الرائد»السابق؟

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في العام 1984، استدعى جهاز الأمن أحد المعتقلين السياسيين من زنزانته في سجن المنامة، بدعوى التحقيق معه. وكانت الأسئلة التي طرحها المحقّق عادية جداً إلى درجة التفاهة، إذ كانت تدور حول معلومات قديمة جداً، لم تعد لها قيمة في ميزان التحقيق، وخصوصاً أن السجين مضى عليه عدة سنوات وهو يعيش مغيّباً وراء القضبان، منقطعاً عن العالم الخارجي إلى درجة منع القلم الرصاص عنه.

بعد إعادته إلى زنزانته اكتشف ذلك السجين ان المحقّق الذي لم يصبح رائداً بعد، أراد أن يوصل رسالة «مهمة» ذات مضمون نفسي، ليوصلها إلى بقية السجناء السياسيين، يقول فيها بالحرف الواحد: «الآن سنرى إذا كان بإمكانكم تنظيم مظاهرة احتجاج في المنامة، فقد قمنا بتوسعة الشوارع في الأحياء القديمة بحيث باتت المنطقة مكشوفة لنا، بما لا يدع مجالاً لأي تحرك (شعبي)».

هذا السجين أنهى فترة حكمه، ونفي إلى الخارج، فاختار العيش في بلد غربي بعد أن لفظته بلاده ليعيش في الغربة والمنفى القسري، ناسياً ومنسياً.

بعد 10 سنوات، صحا من النوم ذات صباح على أخبار مفاجئة من ال «بي بي سي» عن حدوث مظاهرات في البحرين، أمام وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في مدينة عيسى، والتي توسعت إلى مناطق مختلفة، وفي المساء لم يكد يصدّق نفسه وهو يسمع التفاصيل من إذاعة «مونتي كارلو». وقبل أن ينام كان يستعرض شريط الماضي والحاضر، فتذكر ما قاله ذلك المسئول الأمني الذي كان يراهن على سياسة «ترويع» البيوت الآمنة و«تهجير» الكوادر السياسية النشطة أو سجنها وتحطيمها وراء القضبان، أو إسكات الأصوات المعارضة وتكميم الأفواه.

قبل أسبوعين صحونا على خبر حزين، عن إغلاق مركز البحرين لحقوق الانسان، الذي كانت له خدمة مشهودة لخدمة حقوق الإنسان في هذا البلد الخليجي الصغير. وفي الوقت الذي كنا نأمل أن يسود العقل ويتم التراجع عن قرار حلّ المركز وترك القضية إلى القضاء العادل النزيه ليقول كلمته، في دولة نريدها دولة القانون والمؤسسات، بدل ذلك رأينا صورة مندوب وزارة العمل يتسلم مفاتيح المركز كأنه يصفّي تركة ميّت أو قتيل.

بدعة وقى الله البحرين شرها

انها «سنّةٌ سيئةٌ» نبتدعها في هذا المجال... والخطورة لا تكمن في إغلاق مركز حقوقي اليوم، وإنما تتعداها إلى المستقبل، فقائمة المرشحين لحلق الرؤوس طويلة، إذا تم تدشين مرحلة جديدة من التعامل غير القانوني مع مؤسسات المجتمع المدني، تقوم على سياسة «العقاب الجماعي»، فتغلق أية مؤسسة بدعوى أن أحد أفرادها صرّح تصريحاً حاراً أو تفوه بكلمة جارحة. فكلما أصبحت مؤسسة أو هيئة أو مركز أو جمعية أو مأتم أو مسجد، موضع غضب فعليها أن تجهز رقبتها للسكين. وما أكثر الرقاب الطرية في بلدٍ يريد أن يتعلم ألفباء الديمقراطية وفن الاختلاف.

ولا أدري كيف سيكون وضع مؤسسات «المجتمع المدني» إذا استمرت سياسة الإغلاق بهذه الصورة وعلى نفس الوتيرة؟ وكيف سيكون الوضع إذا تم تجاهل المبدأ القائل إن الجريمة فردية ولا تتعداها إلى الأهل والأقرباء والأصدقاء؟ ولا أدري كيف سيستوعب العالم الخارجي المتحضّر خبر إغلاق مركز حقوقي لأن نائب الرئيس صرّح تصريحاً خاطئاً أو ساخناً أو جارحاً؟

وهنا يجب أن أسجّل تحفّظي الشديد على خلط الحقوقي بالسياسي، وكان من الأفضل للبحرين وللمركز تجنب هذا الخلط غير الموفق، بما يعود على المركز بالفائدة كمؤسسة، من حيث الدور المطلوب ومن حيث الأثر. ولكن في الوقت نفسه لابد من تأكيد أن سياسة الإغلاق لا تؤدي إلاّ إلى عكس أهدافها المعلنة. فالمركز مؤسسة «إنسانية» من مؤسسات المجتمع المدني، يقوم بدور يخدم المواطن البحريني ويتطلع في جرأة لمدّ أدائه إلى المقيمين بتبنيه قضايا المقيمين، وخصوصاً تلك الفئات الضعيفة التي لا تجد لها منصفاً، من قبيل خدم المنازل وما يتعرضن له من إضرار واستغلال. وهو بهذه المسيرة الحافلة والمأمول منه أكثر، أصبح رقماً في الساحة السياسية في البحرين، ولا يمكن إلغاء الدور أو شطبه من المعادلة بغلق المقر أو تصفية وجود المركز أو تسلم مفاتيحه.

وأغرب ما في الموضوع ان يتم انتهاج مثل هذه السياسة في ظل عهد الاصلاح، بحيث نعود إلى سياسة المنع والإغلاق والكبت والتجريم والتكميم، متناسين ما قادت إليه تلك السياسة في السنوات السابقة.

قبل ليالٍ، كانت قاعة مركز المعارض تغصّ بالحضور، الذين جاءوا من مختلف مناطق البحرين وجزرها الوادعة، ليحيوا الذكرى الخمسين لهيئة الاتحاد الوطني، التي أصبحت في ذمة التاريخ، والتي تجري إعادة الاعتبار لأبطالها بعد أن كانت من الفصول التاريخية المحظور معرفتها على هذا الشعب. كنت أراقب الوضع وأتلفت يميناً وشمالاً فأرى تلك الملامح التي تشي بألوان الطيف البحريني، من اليمين إلى اليسار، وأقول في نفسي: ماذا أفادت سياسة التشريد والسجن والتهجير والمنافي؟ أم ان عقلية العقيد مازالت تحكم: «الآن سنرى إذا كان بامكانكم تنظيم مظاهرة في المنامة»؟

السجين السابق، والمنفي اللاحق، مازال يعيش في المنفى الاختياري، يفتح المذياع على الـ «بي بي سي» في الصباح ليسمع أخبار بلده، وفي المساء يستمع إلى التفاصيل من «مونتي كارلو»، وعند منتصف الليل يحتضن وسادته ويكتب نتفاً من الأشعار في حب الوطن على علبة السجائر..

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 774 - الإثنين 18 أكتوبر 2004م الموافق 04 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً