العدد 774 - الإثنين 18 أكتوبر 2004م الموافق 04 رمضان 1425هـ

«قضايا نحوية»... معرفة حدود الإعراب

الوسط - محمد المخلوق 

تحديث: 12 مايو 2017

أحار كثيراً مع الطلاب حين أجهد فكري بحثاً عن صيغة توافقية بين منطلقاتي النظرية ووعائهم النظري الحديث التكوّن، وأجد صعوبة في إفهامهم جدوى دراسة العربية وآدابها، ولاسيما انهم من طلبة التخصص التجاري. فمفاهيم القومية والانتماء والهوية و.. إلخ كلها يصعُب سبكها في جمل، وحتى لو لجأتُ إلى حيلة مقاربة الهوية الدينية إلى الهوية اللغوية أصدم بحاجز اللاتمايز بين اللغات واعتبارها وسائط ووسائل لا غايات ونهايات.

وزاد من حيرتي أكثر فأكثر المـُضافة إلى بعض التعقيدات التي عانينا ولا ننفكّ نعاني منها في دراستنا للنحو وقوع نظري على كتاب فَتَحَ كوّة في جدار العقل المحدود، وأشرقَ شمس الاحتمال على صفحة عالم الإمكان... «قضايا نحوية» لمهدي المخزومي.

عالج المؤلف في كتابه بصفحاته الــ 213 القضية الأخطر على اللغة العربية الآن، «النفور من النحو»، مؤكداً ما لتعقيدات النحو وفلسفته من تأثير سلبي وبيّـن على قضاياه ليصوغ عنوان كتابه من العبارات الأخيرة «قضايا نحوية»، وليحيل السامع إلى أن المعالجة ستكون تطبيقية أكثر منها نظرية سابحة في فلك التنظير الجاف غير المدعّم بشواهد مؤيدة، هادفاً إلى العودة بالنحو إلى مساره الصحيح الذي نهجه الفراهيدي في بناء قواعده النحوية بعد أن اختطّ المعنى له طريقاً.

ولخطورة ما كان يقدم عليه المخزومي فقد توسل من التاريخ بشخصيتين لهما ثقلهما في الوسط النحوي، كي يكون بعيداً عن مرامي سهام القوم ونبالهم، مؤثراً لِبْس المغفر على التصريح برأيه مباشرة، ومستدلاً بآراء مختلفة ما يمنح كلامه مساحة لإعمال الفكر فيها وبذل الوِسْع لاحتمال قبول النظر فيها على الأقل.

افتتح أول ما افتتح باستعراض تاريخي لبداية «مَنْطَقَة» علم النحو على يد ابن السرّاج (بسبب دراسته عند الفارابي) ومَنْ تبعه من النحاة، ليصل القرن السادس وقد تقطّعت الأسباب بين النحاة وبين «الدرس النحوي الأصيل»، وقد تسلمت ذلك الإرث الأجيال التالية حتى الوضع الحالي، لتكون بذلك نهاية القصة التي بدأها.

«الإصلاح والتجديد» هو الباب الذي ولج منه لطرح المشكلة المؤرّقة «قداسة الدرس النحوي الموروث»، والحملات المنظمة لأية محاولة للتغيير والإصلاح. وهنا يؤكد أن لا جدوى من الكتب المبسّطة والميسّرة التي لم تشبّ على ذلك الطوق السابق مهما حاولت استخدام التقنيات والرسوم التوضيحية طالما أن المسألة لم تخرج عن دائرتها المفرغة.

حسبما ذكره فإن ابن مضاء (بتشديد الضاد) القرطبي كان الصوت العالي والنشاز في عصره وهو واحد ممن تبرّم من «انحراف الدرس النحوي والضيق بمنهجه الدخيل»، وتجلى ذلك في كتابه «الردّ على النحاة»، والذي طرح فيه قضايا تجديدية. تلا القرطبي عالم له مكانته العلمية وهو واحد من نتاجات ذلك المنهج «الدخيل» إذ نما في رحم النحو الكلاسيكي ألا وهو إبراهيم مصطفى في كتابه «إحياء النحو»، ولا يخفى أن الغرض من ذلك التوصيف كان إثبات حجية مواقف الأخير الثورية على ما سبق أن آمن به.

ومن تينك التجربتين يضع المخزومي أسساً للإصلاح والتجديد في تصورّه هي: معرفة حدود الدرس النحوي، تفسير الإعراب تفسيراً جديداً، إلغاء ما طالب القرطبي وإبراهيم بإلغائه، إلغاء الحدود الجامعة المانعة ذات الحيز الكبير في الدرس النحوي، إلغاء أبواب ما كانت لتوجد لولا الفلسفة كالاشتغال والتنازع، وإلغاء التأويلات والتقديرات المتكلّفة، واتباع نهج في الدرس النحوي على أساس واعٍ لطبيعة اللغة وفهم فاحص لأساليبها وبمنهج وصفي.

ومن هذه النهاية يبدأ تطبيقاته التي يستدل فيها بالقراءات واللهجات التي ناقش حجيتها في «هامش على المصادر»، ليرى أن لا قيمة لبعض المباحث، منادياً بضرورة تغيير النظرة لبعضها. ومن الأهمية بمكان المرور على عناوين تلك المباحث بما يشوّق القارئ للاطلاع على الكتاب، وليفهم القارئ خطورة ما يحويه الكتاب - بغض النظر عن توافقنا معه أو اختلافنا - ما يفتح له أفقاً يمكنه فيه مناقشة هذه الآراء سعياً وراء إثراء الدرس النحوي.

الإعراب كما يقول هو «بيان ما للكلمة في الجملة من قيمة نحوية أو معنى إعرابي»، فالضمة علم الإسناد والكسرة علم الإضافة والفتحة علم المفعولية وما يشبهها، ويرى أن الأسماء هي المعربة وهي المتحملة للمعاني الإعرابية فقط ولا يوجد هناك ما يسمّى فعلاً مضارعاً، ويرفض تصنيف العلامات لفرعية وأصلية بل هي عملية مَطْلٍ للحركة لسبب تحرّض عليه اللغة، ويتبع ابن مضاء في أن أحرف المضارعة هي ضمائر مختزلة من ضمائر منفصلة للتكنية بها عن الفاعلين وغيرها من مباحث. وفي كل تلك المناقشات يطرح الآراء النحوية ويؤكد كلامه بواحد منها فمرة يؤيد المدرسة الكوفية وأخرى البصرية أو هذا النحوي أو ذاك.

يخلص في نهاية ذلك الأخذ والرد إلى أن خصائص العربية تجعل من المستحيل حدّها بحدود منطقية، وأن النحاة أساءوا للعربية وأصالتها وحيويتها، داعياً لمناقشة المحاولات التي تريد استنقاذها من ذلك الوحل الذي وقعت فيه كما يرى هو، لا كما أرى أنا فلست بشيء لأناقش جهابذة النحو، بل هي إطلالة على كتاب منحني حيوية في التفكير، وأثار زوابع أفكاري، وما أشد حبّ الإنسان للشاذ الغريب وأكثر ميله لخرق المألوف... آملاً أن يكون الكتاب مدخلاً لتقبّل وجهة النظر الأخرى طالما أسندتها شواهد وأدلة





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً