شهر رمضان شهر تواصل ومحبة... لعل ذلك أشد ما يدفعني إلى انتظار هذا الشهر الكريم في كل جوانبه بفارغ الصبر... إذ غالبا ما نلقي باللوم على مشاغلنا التي سحبتنا من أحبتنا وأبعدتنا عنهم شر ابتعاد فما عدنا نعرف عن أحوالهم، أحياء هم أم أموات؟ وما جر عليهم الزمن من حوادث... القريبون منا بتنا نعرف أخبارهم من الغرباء عنا... يسألوننا عن أحوال «فلان» من الناس الذي تجمعنا به صلة قرابة من الدرجة الأولى فنخفي رؤوسنا كالنعام حتى يبادرنا السائل بالإجابة وكأنه تعمد إخضاعنا لاختبار لم يراوده شك بتاتا في عدم مقدرتنا على النجاح فيه!
في حديث لي مع إحدى الزميلات قالت وعلى محياها كل علامات التعجب والاستغراب: أتصدقين أني تلقيت مكالمة من زميل لي في عملي السابق يسألني عن أحوالي ويواسيني فيما ألم بي من مصاب سمع به حديثا!... فسألتها: وما وجه الغرابة في ذلك فلو كنت مكانه لفعلت الشيء نفسه وخصوصا أنه كما تقولين زميل لك في العمل؟! فأجابتني: لكنه كان أدنى مقربة مني من باقي الزملاء جميعهم، فلم يكن بيننا إلا مبادلة التحية وبضع كلمات تتعلق بالعمل... فقط لا أكثر! لابد أن وراءه سرا من الأسرار لم أتمكن من كشفه حتى اللحظة! قلت: إذاً الأيام كفيلة بكشف كل شيء ولكني أستغرب من الزمن الذي جعلنا نشك في نوايا كل شخص بادلنا كلمة طيبة أو شاركنا في أفراحنا وأتراحنا بحجة أننا لم نكن على علاقة قوية به! ثم وجهت إليها سؤالي: وهل المقربون منك - على حد زعمك - سألوا عنك وعلموا بما جرى لك؟ فأجابت مطأطئة الرأس: تصوري أن حتى زميلتي في المكتب المجاور والتي دائما ما تحدثني في أمورها الخاصة والعامة وتأخذ برأيي ومشورتي لم تكلف نفسها عناء السؤال واستقبلتني بعد غياب وكأن شيئا لم يكن، وبعدما علمت بما جرى مصادفة إثر حديث دار بين مجموعة من زملائنا فما كان منها إلا أن اعتذرت، بل وانهالت علي باللوم والعتاب كوني لم أخبرها بما جرى لي منذ أول ما جرى! قلت: فهمت الآن مصدر استغرابك من مكالمة زميلك الذي لم تربطك به أية علاقة!
عند الشدائد غالبا ما تتكشف الأمور فيظهر لك المعدن الطيب من غيره... أظننا قوما تغرنا الكلمة الطيبة فتلهينا عن كشف بواطن القلوب... الكلمة الطيبة صدقة والبسمة الجميلة فيها ما يأسر القلب والنفس والذهن ولكن هل منحنا أنفسنا الفرصة لمطابقة الظاهر بالباطن وكشف الفارق بينهما؟
كنت كتبت مرة عن الابتسام فإذا بشخص يستغل ذلك أيما استغلال، ووجهه العابس طوال الوقت وفمه الذي إن نطق بتحية الإسلام حينما يشاء القدر أن نتقابل وجها لوجه مصادفة... هذا الوجه أخذت الابتسامة لا تفارق محياه حتى قطعت طريقها من الأذن إلى الأذن... ولكن ما سر هذا الابتسام الغامض الذي لم استطع هضمه؟ لا أظنه قرأ ما كتبت فدخل قلبه بهذه السرعة فقرر تغيير مسار وجهه!
قلت: دعي الأيام تكشف الظاهر والباطن... وهذا ما حصل فعلا... فبعد دقائق من أول ابتسامة ظهر المخفي وما كان وراءه... فصاحبنا إنما غرضه قضاء مصلحة ما! وحينها علمت أنه حتى الابتسام بألوان منه الأصفر الذي تنفر منه القلوب إذا ما فتحت أحاسيسها الضامرة، ومنه الأبيض الذي تنجذب إليه وتندفع نحوه من دون التوقف عند أسباب ذلك الاندفاع!
إذاً، المسألة سهلة صعبة في آن واحد! صعبة لاختلاط الوجوه في زماننا ولكثرة ألوانها وامتزاج طيبها بخبيثها فتساوى ظاهرها حتى صعب علينا التمييز بينها وراودنا الشك في الطيب منها... وهي سهلة لو سمحنا لعقولنا وقلوبنا معا بأن يتشاركا في العمل بالتساوي... فعند ذلك فقط لن ننخدع بالألوان المزيفة... فافتح قلبك
إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"العدد 773 - الأحد 17 أكتوبر 2004م الموافق 03 رمضان 1425هـ