يقول الصحافي الاميركي دانيال هالين: «الصحافيون يحتاجون الى التحرر من فهم دورهم انه وساطة بين السلطات السياسية وبين عامة الجمهور، الى التفكير في ان دورهم أيضاً مهمة فتح نقاش سياسي في مجتمع مدني، قد يكون هذا هو الوقت الذي يقوم فيه الصحافيون بالانضمام الى مجتمع مدني، وان يبدأوا في الحديث مع قرائهم ومشاهديهم كمواطن مع الآخر، بدلاً من خبراء يدعون انهم فوق السياسة».
«الصحافة وظيفتها الإخبار وتحقيق حق المعرفة للإنسان»، عبارات نحتت في الصخر، تكلّست، تصنّمت، وتصنّم الصحافيون معها، أما الجمهور فهو قوالب جاهزة، وما علينا سوى أن نملأها أخباراً ونظريات. وما أجمل أن نعيد صوغ المفاهيم، بمعنى ان نعتقد اننا من يصنع الخبر وأننا من يصنع الجمهور، فنعتقد اننا بذلك أحدثنا طفرة في مفاهيم الصحافة، لكن هذا لا يكفي، سأحاول الزعم أن الطفرة الحقيقية هي ان المجتمع هو الذي «يصنع الحدث وهو من يصنع الصحافة حين تنقله وتبثه».
صحافة اليوم لها عدة اشكال، صحافة السوق، بمعنى ما يطلبه السوق من تسلية، أو ما يريده المعلنون، فتكون صحافة معلنين ورأس مال متغير المزاج والرغبات. صحافة الوصاية، وخصوصاً لكتاب الأعمدة والمقالات التحليلية، وتقوم على «ان يقدم الصحافيون المادة التي يعتقدون ان المواطنين يجب أن يحصلوا عليها لكي يصبحوا مشاركين مطلعين في الديمقراطية». صحافة الرأي الموبوءة بالأدلجة وقيادة الشارع «الصحافيون يقدمون للجمهور أخبار الحزب السياسي ورؤيته».
مصطلح «الصحافة المدنية» أو «صحافة الجمهور» مصطلح أميركي أنتج منذ نهاية السبعينات، وبرز العام 1988 متزامناً مع الانتخابات الرئاسية الأميركية، إذ ألح الصحافي ديفيز ميريت في تلك الفترة على عقد اتفاق جديد بين المرشحين والصحافيين الذين سيركزون على القضايا التي يهتم بها المواطنون، أكثر من الموضوعات التي يهتم السياسيون بالحديث عنها.
تزعم الصحافة المدنية انها تقدم نموذجاً جديداً للكيفية التي يجب على الصحافيين أن يسهموا بها في عجلة الديمقراطية، إذ ان الصحافة التقليدية تفترض ان الديمقراطية هي قائمة فعلاً، وان المعلومات هي ما نحتاج لديه، فإن الصحافة المدنية تعتقد ان العكس هو الصحيح: فنحن نعيش في بحر من المعلومات، بينما الديمقراطية هي ما نحتاج إليها. لذلك تتسم ممارسة الصحافة المدنية بالرغبة الصادقة في تفعيل وتحديث وتطوير الديمقراطية، لا نقل الحوادث والتعليق عليها بآراء الصحافيين التي غالباً ما يعكف أصحابها على صبغها بألوان الحقيقة والوعي الفوق سياسي.
الصحافة المدنية هي نموذج فريد، صحافة لا تعتمد على السوق، أو الأيديولوجيا، أو حتى الصحافيين أنفسهم، ليس من الضروري في الصحافة المدنية ان يتم إنتخاب رئيس التحرير من قبل أفراد الشعب، لكن المثير أن نحاول أن نجعل غرفة الاخبار مليئة بالأعراق المختلفة والتيارات المتباينة من الصحافيين، بوصفنا نقوم بتحوّل ديمقراطي في الممارسة الصحافية. ليست العملية في خلق الصحافة المدنية، مقيدة بالمفهوم المدني فحسب، بل ان تميزها ينبع من انها مدنية تدخل في حقل يتسم بوجود المهنيين، مدنية مهنيين، لا مدنية جمهور اعتيادي، قد يعطيها هذا خصوصية معينة، قد تصعب وقد تكون سهلة التكوثر.
«الصحافة المدنية» لابد أن تلزم الصحافي أن يتحدث مع الجمهور، أن يعرف الجمهور ويبحث عنه، وأن يعرف ما يريد بالضبط، والجمهور ليس بوصفه الجمهور المتوقع الذي يختاره الصحافي ليدعي بذلك معرفته بالآراء خارج غرفة الاخبار، بل هو جمهور عشوائي، تختاره الصحيفة أو دار النشر من الخارج من دون تقصد واختيار، وهذه الجزئية من أهم مقومات بناء الصحافي المدني. لذلك تعكف الصحف الأميركية على التقاء صحافييها مع عامة الناس في جلسات اسبوعية ودورية.
لابد للصحافي المدني ان يكسر القوالب والتقاليد الصحافية المهنية، قد تكون الصحافة المدنية تحتوي الكثير مما يثير الامتعاض، أو انها كما يصفها محرر «نيويورك تايمز» انها «سامة لقيم الأخبار». لابد من كسر الصور المغلقة للصحافة التقليدية، وجعل العملية أكثر انسيابية في التحول نحو الصحافة المدنية. التقاليد الصحافية الكلاسيكية بحاجة الى الهتك، وعملية الهتك هذه لا تنتظر تقاليد جديدة بقدر ما تنتظر مدنية أكثر.
إن ابرز جزئية أدعي انها ميزة مهمة للصحافة المدنية، هي انها مفهوم نصنعه للمهنيين انفسهم، بمعنى اننا لسنا بصدد المحاولة في تغيير الجمهور كما تسعى رؤى المجتمع المدني، بل نحاول ان نخاطب الفئة المهنية ذاتها، ولسنا بذلك نقع في مطب المهنيين (النخبة) حين يمارسون صحافة الوصاية تجاه القراء. إلا ان اكثر زاوية تتصف بالضيق هي اننا ندعي ونزعم بأننا بهذا المفهوم نؤسس الى ان الصحافيين المهنيين لديهم «قراءة واعية لمفهوم الديمقراطية» وكيفية تطبيقه بما ندعو له او نسميه بالصحافة المدنية.
هناك ممانعة في التفكير تجاه ماهية الأسس التي يبني عليها الصحافي التقليدي قصصه الإخبارية، وفي وضع سياسات الأخبار، ونقل البحوث الأكاديمية في هذا الجانب تحديداً، والصحافة المدنية تدعو الى اعادة التفكير حول هذه السياسات والممارسات. نحن نسعى الى مناقشة سلطة الصحافة، وندلل بأن للصحافة سلطتها الضبطية للمجتمع بأنها أحياناً تقوم بأدوار لا مهنية تقليدية ولو على استحياء. ما الذي يجعل صحيفة «شارلوت أوبزيرفر» تعقد اجتماعات داخل المدن لمناقشة مشكلات الاعراق والعنصرية. ليس المقصود بالصحافة المدنية ممارسة الدور الاجتماعي، لكن القصد هو إيجاد البيئة الحوارية الديمقراطية لبناء هذا الحوار الديمقراطي، ليس عليها أن تقوم بالحوار الديمقراطي ولكن عليها أن تمهد له وتتبناه.
الصحافة المدنية تعطي الصحافة سلطة كبرى، هي على غرار مفهوم السلطة الرابعة الحالي، إلا ان سلطتها اليوم في العالم العربي نابعة من ارتباطها بالسلطة، والسلطة التي نريدها لها سلطة تتحصلها من المجتمع المدني، لذلك كلاهما سلطة، إلا أن السلطة التي نريدها لها سلطة عقدية لا مفروضة. ولكن من الذي أعطى الصحافيين المدنيين هذه السلطة؟ نستطيع أن نعطيها حق السلطة عبر بحوث الرأي العام، وفشل الديمقراطية التقليدية عبر صناديق الاقتراع السري، كلها صور اعطت الصحافة المدنية الحق في التدخل الاستراتيجي في صوغ برامج المرشحين السياسيين. الصحافة المدنية تنحو نحو تمثيل الجمهور رغماً عن الساسة، أو هي قوة الضبط والضغط على الساسة، دون انتخاب أو تفويض عقدي، وهذا ما أسماه الساسة الأميركيون بـ «الخديعة».
ازعم ان الصحافة المدنية حين تقرأ الجمهور تقرأه بالكيفية الآتية:
أولاً: السلطة السياسية ليست هي قوام المجتمع المدني، لذلك هي خارج لعبة الصحافة المدنية. وعلى الافراد ان يتخذو القرارات بانفسهم من دون وصاية سياسية أو نخبوية أو مهنية. إن الاعتقاد بأن أية سلطة سياسية - مهما امتلكت مظاهر القبول المجتمعي - هي خلاصة التشكل المدني، وبالتالي لابد من دعمها، هو اعتقاد يمثل انحرافاً عن دور الصحافة المدنية. التناغم قد يفرضه الرأي العام لا القرار المؤسسي.
ثانياً: المجتمع ليس بؤرة صراع، بل مثل متجاورة، والصحافة المدنية هي من يسعى الى الحفاظ على هذا التجاور السلمي، ومتى ما أخفقنا ينشأ الصراع لاننا بذلك لا نملك مجتمعاً مدنياً أو صحافة مدنية. ولابد ألا يكون هذا التناغم مناقضاً لوحدة المجتمع الذي لا نعني به - شعباً واحداً - بل مجموعة غرباء متفقين يجمعهم عقد اجتماعي.
ثالثاً: مفهوم التجاور الاجتماعي مفهوم إقليمي، بمعنى أنه مفهوم متجاوز للسلط الآسنة، هو مفهوم مجتمع مدني فاضل. بمعنى ان السلطة غير مؤدلجة بقصد، لا ضرر ان تكون نتائج العمل المجتمعي المدني مؤدلجة، فالتجاوز نسبي في الغالب.
رابعاً: الصحافة المدنية ليست تقويضاً للدولة ولمفهومها، فالدولة هي مؤسسة مدنية ينتجها الجمهور، والصحافة المدنية مؤسسة ينتجها الجمهور ذاته، لذلك لابد أن يكون بينهما توزان بشرط ألا يصل الى الاندماج، فتكون صحافة سلطة لا صحافة مجتمع مدني.
خامساً: لا توجد وصفات سرية لبناء الصحافة المدنية، أو لتحقيق أهدافها، والتوقع هو تدخل في حق الجمهور في اتخاذ القرار، بمعنى انها تقويض للسلطة المجتمعية المدنية، وبالتالي تقويض لدور الصحافة المدنية
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 773 - الأحد 17 أكتوبر 2004م الموافق 03 رمضان 1425هـ