لم يذكر القرآن الكريم الوقف بخصوصه في آية من آياته على الاطلاق، ولكن عرض له ضمن الحض على التصدق على الفقراء وبرهم ورعايتهم، فقال تعالى: «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون» (آل عمران:92) وقوله: «أنفقوا من طيبات ما كسبتم» (البقرة:267) وقوله تعالى: «وافعلوا الخير لعلكم تفلحون» (الحج:77) وقوله: «يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين» (البقرة:215).
لكن السنة المطهرة هي التي عرضت للوقف، ويضيق المجال عن ذكر التفاصيل، ونتنور بقول أشرف الخلق نبي الأمة وخاتم المرسلين محمد بن عبدالله (ص): «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، جعلنا الله تعالى من الصادقين والمتصدقين.
ورجوعاً إلى تاريخ انشاء المحاكم في مملكة البحرين، فإن الثابت على واجهة المحاكم القديمة في المنامة بالحفر على الجدار أنها أنشئت العام 1937م، بينما الثابت في أوراق إدارة الأوقاف الجعفرية الرسمية أن إدارة الأوقاف الجعفرية أنشئت العام 1346هـ، وبذا تكون إدارة الأوقاف الجعفرية سابقة على انشاء المحاكم في مملكة البحرين بعقدين من السنين، أي أن يدها وضعتها على أوقافها قبل ثمانين سنة، وهي سابقة على التشريعات المدنية التي جاءت واحتلت التطبيق من دون الرجوع بأثر رجعي إلى ما قبلها وقد تناولنا ذلك بالشرح المفصل في عددين سابقين على صفحات صحيفة «الوسط» (العددان: 753 و764) نحيل القارئ الكريم إليهما منعاً للتكرار، وبهذا لا يكون للقوانين الوضعية ولا أحكامها المدنية سلطان على أراضي الأوقاف الجعفرية، ويكون تسجيلها طبق الأحكام الشرعية لا القوانين الوضعية أو المبادئ التي أرست دعائمها المحاكم، والقيادة في يد ملك يرعى الحقوق، ويعطي الآمال بصدق وعزيمة، وسعيه حثيث وقد امتدت يداه إلى تسجيل أوقاف جعفرية عجزت عنها المحاكم المدنية، عندما استشعر بصدق علمائنا ومراجعنا الأجلاء في صحة الوقفيات وشرعيتها الذاتية، وسلامتها من أي نزاع يشوبه اللبس والغموض.
وكيف يحصل اللبس أو الغموض في الوقفيات في عهد شيوخ أجلاء كانت بيدهم إدارة الأوقاف الجعفرية منذ عهد يعد بالمئات؛ فقد كانت الأوقاف تدار بيد الشيخ الجليل عبدالله بن محمد صالح، ونقدم مستنداً وثائقياً عن هذا الشيخ خادم الشرع المطهر وكيف كان يدير الأوقاف ويختار الأشخاص المساعدين له في الإدارة، ويكفي أن ننشر هذا المستند الوثائقي ليطلع عليه القارئ، ويعطي انطباعاً يرقى إلى الامتياز في الإخلاص والتدين وعمق التفكير والنزاهة.
ونقدم إلمامة بسيطة عن محتوى هذا المستند الوثائقي، ذلك أن شيخنا الجليل المذكور قد اختار رجلين من أهالي كرزكان أولاهما الثقة لإدارة المأتم بعد ثبوت لياقتهما بشهادة عارفيهما، وقد اشترط عليهما أموراً أربعة:
الأول: أن يقدما صورة الحساب لإدارة الأوقاف الجعفرية للعشرة الأولى من محرم.
الثاني: أن يحصل التصديق من أعيان محلتهما على صورة الحساب.
الثالث: ألا يستقلا بنظرهما في استئجار القارئ ولا في خبرته، بل يراجع أهل الخبرة من محلتهما.
الرابع: أن يساويا بين القوي والضعيف في الانفاق من مال الوقف. وأوصى بطريق الاحتياط فإنه طريق النجاة.
وهذا ما شهده السلف، أما في وقتنا الحاضر فقد تحولت رئاسة إدارة الأوقاف الجعفرية من شيوخ أجلاء، إلى رجال مدنيين، وغداً إلى ضباط عسكريين لفض المنازعات، ومن يدري قد يتحول الأمر إلى رؤساء أبديين كما هي سمة بعض رؤساء المآتم في وقتنا الحاضر، إلا أن الكمال والأبدية ليست من صفات البشر، بل هي من صفات الخالق سبحانه وتعالى، ونعوذ بالله تعالى أن نصل بتفكيرنا إلى مرتبة هذا العلو، والمستقيم ديناً وعقلاً ومنطقاً يسبح الله بهذه الصفات ليحصل على الأجر والثواب.
وللعلم فإن هذا الموضوع يعبر عن وجهة نظري الشخصية، مع ما أكنه من احترام شديد لرئيس الأوقاف الوقور.
كفانا الله تعالى فساد التفكير وسوء التدبير.
محام ومستشار قانوني
العدد 771 - الجمعة 15 أكتوبر 2004م الموافق 01 رمضان 1425هـ