أهنئكم بحلول شهر رمضان المبارك وأكثر لكم من الدعوات بأن ينالكم كل أنواع الخير. وعدا ما يقوله الكثيرون عن رمضان، فإن لهذا الشهر محبة خاصة في نفسي وفي وجداني لأنه يعيدني إلى أجمل الأيام التي يمكن أن يذكرها أي واحد منا، يجدد فيَّ شعوراً خاصاً كامناً في أعماق نفسي، في الوعي وفي اللاوعي أيضاً.
إذا كنتم تعتقدون أنني سأمضي الآن في بوح متدفق يملأه الحنين للطفولة الاولى فقد تكونون محقين، لكني لست بصدد هذا بالضبط.
نكثر من الحديث عن الطفولة كلما يتقدم بنا العمر، ورمضان هنا لا يفعل سوى أن يعيدنا بقوة إلى هناك. لم يكن هذا هو الموضوع الذي فكرت في كتابته لهذا اليوم بل موضوع آخر، لكن ما أيقظه رمضان في نفسي جاء بمفاعيله ودفعني إلى وجهة أخرى.
قيل لنا ونحن صغار: «الله يربط الشياطين والجن في رمضان ويقيدها بالسلاسل»، فنشأنا على نسيان الخوف في هذا الشهر. فالطرقات والأزقة الموحشة والبيوت الخربة التي نتحاشى المرور قربها طيلة العام، نتبختر أمامها بكل ثقة في ليالي هذا الشهر. وحدود اللعب التي لا تتعدى ساحات الحي تمتد إلى ساحات أحياء أخرى لأن ثمة هدنة غير معلنة بين صغار الأحياء وشبانها.
للصغار يبدو رمضان شهراً تنطلق فيه طاقة الفرح إلى أقصى حدودها، وللكبار فهو شهر التأمل والمراجعات والاسترخاء أيضاً. الاسترخاء بمعناه الأشمل نفسياً وذهنياً، والتعاليم واضحة لا تقبل اللبس أو التأويل: الإكثار من فعل الصالح من الأمور. والإكثار من العبادات في أحد معانيه الأهم هو دعوة إلى التأمل. يمتد التغيير الذي يطرأ على الناس إلى ما هو أكثر من ذلك، فهم مطالبون بالتراحم فيما بينهم وإظهار أكبر قدر من المودة والسماحة والتعفف والبعد عن كل أنواع الزلل.
إن رمضان شهر جميل بحق، لكن سؤالاً واحداً ظل يشغلني مذ كنت صغيراً وحتى اليوم: طالما أن لدى الناس القدرة على الارتقاء بسلوكهم إلى كل مراتب الفضيلة والعفة والتسامح والمودة والصفاء في شهر واحد من العام، فلماذا لا يفعلون ذلك طيلة العام؟ أي طيلة حياتهم؟.
هذا السؤال مازال يشغلني لأن الناس بتقلبهم هذا ما بين سلوكهم في رمضان وسلوكهم بقية العام يجعلون رمضان نوعاً من الهدنة ليس إلاّ، وما يفعلونه خلاله أقرب إلى التقليد منه إلى العمل المتفكر الواعي.
وطالما أن «التأمل» هو أحد الخصال المفقودة لدينا نحن البحرينيين بشدة، فبالإمكان تقدير الخسارة المضاعفة لهذه الخصلة عندما نرى كيف أن هذا الشهر لم ينجُ أيضاً من هذا اللهاث والإيقاع السريع لحياتنا المعاصرة. مرة أخرى لست بصدد حنين ما إلى ماض أو مقارنة مع حاضر، بل يشغلني هذا اللهاث والاندفاع الذي لا يتوقف نحو كل شيء وكأنما فقدنا القدرة على التوقف. التوقف بما يعنيه من قدرة على التأمل والمراجعة. لربما بدا هذا التفصيل غير ذي أهمية للبعض أو أن التأمل الذي يحمله رمضان بالنسبة إلي، قد لا يكون هو ما يعنيه رمضان لغيري، لكن من المؤكد أن النتيجة هي واحدة في النهاية: هل يملك البحرينيون خصلة التأمل؟
كنت اخترت أن أكتب عن هذا بالضبط وإن من زوايا أخرى، ألا ترون معي كيف نسير نحن من قضية إلى أخرى ومن مشكلة إلى أخرى ومن موضوع إلى آخر ومن أولوية إلى ثانية ومن مشروع إلى مشروعات ومن حديث ساعة إلى آخر بعده دونما توقف؟. دونما مراجعة؟ دون أسئلة؟ دون تفكيك؟ دون بحث؟ بل بأجوبة جاهزة لكل شيء وكأننا نملك كل مفاتيح المعرفة التي تغني عن كل سؤال.
كل عام وأنتم بألف خير، واذا كان رمضان سيحيي فيكم شيئاً فأملي هو أن يحيي فيكم دوافع التأمل والتفكر وأن يغل الله كل الشياطين والجن ليمنحكم متسعاً من الوقت لكي تتوقفوا برهة وتسألوا أنفسكم عن سر هذه القدرة التي يتمتع بها البحرينيون فقط على تقديم أجوبة جاهزة لكل شيء دونما بحث أو سؤال
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 771 - الجمعة 15 أكتوبر 2004م الموافق 01 رمضان 1425هـ