العدد 771 - الجمعة 15 أكتوبر 2004م الموافق 01 رمضان 1425هـ

«الديمقراطية» المحمولة جواً وإغراء «المصالحة الذرية»

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

الحديث عن عقد واشنطن الصفقة مع طهران لم يتوقف خلال الأسابيع القليلة الماضية، بدأ الاشارة اليها للمرة الأولى المرشح الديمقراطي جون كيري، وها هو الرئيس الجمهوري يعرضها على قادة الدول الثماني الصناعية الكبرى.

واذا كانت تفاصيل الصفقة قد بقيت طي الكتمان أو الغموض والابهام كحد أدنى الا ان الجزء المثير مما أعلن عنه عن طريق وسائل الاعلام يفيد بأن القدر المتيقن منها هو ما يتعلق بالملف النووي الايراني، ولذلك ذهبت بعض وسائل الاعلام الإيرانية إلى تسميتها بـ «المصالحة الذرية».

لسنا هنا بصدد مناقشة تفاصيل ما لا نعرف أصلا، وان عرفنا شيئا فهو من باب الحدس والتخمين أو من باب التسريب الذي قد تعمد اليه بعض الجهات لغايات انتخابية أميركية أو إيرانية. ولكن مجرد الاعلان عن وجود أو امكان وجود صفقة بين واشنطن وطهران وعبر أوروبا بالذات يحمل في طياته دلالات كثيرة نعتقد ان اهمها ما يأتي:

أولاً: ان واشنطن وأيا يكن رئيسها المقبل لم تعد عاصمة تلك الامبراطورية المنفلتة العنان تجاه كل من هو ليس معها. بل ان البعض بات يتحدث عن تعديل ما سيطرأ على سياسة «القوة المنفلتة والمفرطة» للإدارة الأميركية المقبلة في تعاملها مع الآخر حتى لو نجح بوش في التجديد لولاية ثانية، اذ سيضطر الى التحول من رئيس راديكالي الى رئيس «معتدل»!

ثانياً: ان أميركا خسرت الحرب على العراق وان نجحت في اسقاط نظام صدام حسين وانها بصدد البحث عن مخرج واقعي لها من المستنقع الذي غرقت فيه وليس في نيتها تكرار السيناريو العراقي مع أية دولة أخرى.

ثالثاً: ان أميركا ادركت أن موازين القوى العالمية لا تتشكل بأحجام القوة العسكرية المملوكة ومستويات الحزم العسكري الممارس في السياسة الخارجية فقط، بل ان فن كسب واحتلال قلوب الآخرين قد يلعب في لحظة تاريخية معينة دوراً أهم بكثير من كل الترسانات المكدسة بأسلحة الدمار الشامل لدى القوى العظمى، وهو ما خسرته واشنطن في سباق الرهان على أفغانستان والعراق بسبب سياسة الخداع الشامل التي مارسها المحافظون الجدد كما وصفها المرشح الديمقراطي.

رابعاً: ان واشنطن المدعية بامتلاكها «الخير كله» مقابل عالم مليء بالاشرار! والخارجين على القانون! هي نفسها لا تقبل إلا لغة واحدة هي لغة «الردع الاستراتيجي» التي بدأت تتحدث عنها طهران في الآونة الأخيرة لاسيما مقابل حليفتها - أي حليفة واشنطن - أو شريكتها الاستراتيجية في الواقع أي الكيان الاسرائيلي، ما دفع بالقابضين على القرار الأميركي إلى تقديم إعلان متواضع عن استعدادهم لعقد صفقة أو «مصالحة ذرية» حتى مع ضلع اساسي من أضلاع «محور الشر»!

خامساً: وربما العلامة أو المؤشر الأهم برأيي، وهو إدراك واشنطن أن مهمة «نشر الديمقراطية وتعميم الاصلاح» في الشرق الأوسط الكبير ليست كما كانت تتصور قبل غزو العراق أي ان يتم تنفيذ تلك المهمة من خلال القوات المحمولة جوا تماما كما هي حال المهمات العسكرية الملقاة على عاتق القوة 101 المحمولة جواً على سبيل المثال وذلك كقوة اسناد متحركة تسند اليها مهمات عاجلة هنا وهناك.

هل يعني ما تقدم ان واشنطن قررت فعلا انتخاب طريق المصالحة مع الآخر حتى وان كان مصنفاً ضمن دول محور الشر؟ لا أعتقد ذلك طبعا، ولا أظن ان العلامات أو المؤشرات التي مر ذكرها كافية لتجعل من واشنطن رسولة سلام أو طائر حمام الى عواصم الدول «المارقة» على إرادة المارد الأميركي.

غالبية الظن ان واشنطن تفكر ملياً بعد دروس أفغانستان والعراق والمعركة المفتوحة على «الارهاب» في استبدال خطة نقل الديمقراطية المحمولة جواً من مشروع «تغيير» الدوائر الحاكمة الى مشروع «إدارة» عملية التغيير المطلوبة من داخل الدوائر الحاكمة في الدول المرشحة «للانزال الديمقراطي» و«الاصلاح السياسي».

بمعنى آخر استبدال مشروع مكلف جداً لأميركا، وهو مشروع الاستخدام المفرط والشامل للقوة العسكرية كما حصل في كل من أفغانستان والعراق، وهو ما اثبت فشله ايضاً، بمشروع «اختراق» عملية التغيير والاصلاح السياسي بعد ان باتت اشبه بالعاصفة أو الطوفان للعمل السياسي في العالم أجمع.

ومن أجل ان تنجح مثل هذه السياسة أو المهمة فانه لابد من «مشروعات مصالحة» متعددة يلوح بها بين الحين والآخر لقياس نبض الشارع العام ومدى تقبله لعملية «الاختراق» وايضا لقياس قدرة الطرف الآخر على «الممانعة».

في هذه الاثناء تتم عمليات «اختراق» واسعة «لبؤر» التغيير في ساحة العمليات الأكثر اشتعالا، اذ تزداد المطالبات القومية والعرقية والمذهبية والطائفية على امتداد العالم «الآخر» لاسيما في منطقة الشرق الأوسط الكبير التي تتميز بالأوطان والدول والممالك الحاوية والمتضمنة والحاضنة لفسيفساء من التآلف والتمازج والتجاذب العرقي والمذهبي والقومي المتنوع والمتعدد قد تكون إيران نموذجا مختبريا لها كما تعتقد الدوائر الأميركية على ما يبدو.

ان اقتراب عسكر الولايات المتحدة الأميركية ومخابراتها وأعوانها وشركائها وصنائعها من هذا «المختبر المثالي» كما يظنون ربما كان الحافز الأقوى لمثل هذه «الجزرة» أو لمثل هذا الاغراء الممدود من جانب واشنطن.

لكن هذا الاغراء الذي يشبه التهديد لاسيما في ظل الغموض الذي يحيط بسياسة أميركا الخارجية تجاه قضايا اساسية في العالمين العربي الاسلامي في ظل استمرار شلال الدم المتنقل بين العراق وفلسطين يمكن ان «يُدجّن» ويصبح فرصة للانتقال بإيران من دولة «محاصرة ومعزولة» كما يريد ان يصورها الأميركي و«رافضة» لكل الحلول والخيارات «العقلانية» الى دولة قوية ومقتدرة وفاعلة بقوة في السياسة الاقليمية والدولية.

هذا ما قد تحمله قمة القاهرة الموسعة بشأن العراق من مفاجآت

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 771 - الجمعة 15 أكتوبر 2004م الموافق 01 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً