على أعتاب مبنى الصحيفة توقفت سيارة تقل بداخلها شخصين لا تبدو على ملامحهما أية علامات تميزهما عن باقي البشر الحافين وراء لقمة العيش فلا يبلغون مرادهم إلا بشق الأنفس... انتظرنا ترجلهما من السيارة لبلوغنا وإلقاء ما يحملان من هموم في جعبتنا لنقوم بدورنا بمد أيدينا لهما بما هو متاح ومستطاع... كيف علمنا بأن لديهما هموما؟ لا أظننا في هذا الزمن بحاجة إلى عميق تفكير للتفريق بين المهموم والسعيد فكل من سيماهم يعرفون!
تابعنا عملنا وأعيننا على تلك السيارة والرجلين اللذين بداخلها... تراهما ماذا يريدان؟ وفجأة بدأت أيديهما تلوح لنا بإشارات ليس لها معنى إلا طلب المجيء إلى حيث يقفان!! هذه تحصل للمرة الأولى! لم نبالِ وزحفنا إليهما... وهنا كانت المفاجأة عندما بادرانا بالاعتذار لعدم تمكنهما من الترجل من السيارة إلا بمساعدة قوية تحملهما من حيث يجلسان لتنقلهما إلى كرسيهما المتحركين القابعين في صندوق السيارة!
لن أخوض في تفاصيل مشكلتهما التي سترى النور قريبا بإذن الله على صفحات هذه الصفحة، ولكني سأحاول رسم صورة لملامحنا عندما سمعنا كلمات اعتذارهما وسبب ذلك الاعتذار... كل منا تبدلت ملامحه وكأن صاعقة وقعت على رأسه! صاعقة أنستنا حرارة الشمس وجعلتنا نركز على شيء واحد فقط... كيف السبيل لمساعدتهما... والكل طلب مني عد هذه الحال حالا استثنائية يستحق من أجلها كسر جدول المواعيد الثابت لمقابلة القراء... وعبارة واحدة ترددت على لسان الجميع «مساكين... ساعديهم»!
مشكلتهما قد لا تبدو غريبة، فقد سمعنا بها مرارا وحاولنا تداركها والبحث لها عن حلول وبقينا ننشر إلى يومنا هذا والمعنيون «أذن من طين والأخرى من عجين»... ولكن مع هذه الحال أجبرنا أنفسنا على وصم المشكلة بالغرابة وبالتعقيد المستحيل... لماذا؟ لأن صاحبيها من المعوقين ويحق لنا أن نشفق عليهما ونرأف لحالهما ونقول: «مساكين»!
صادفت أناسا كثيرين ممن نطلق عليهم «معوقين» يخوضون غمار الحياة ولا يبالون بالقيل والقال، تراهم في المدارس، في الجامعة، في الأسواق، في الأعمال والمهن (وإن كانت قليلة أو بسيطة)... إلخ، تراهم يبدعون وينتجون، وكأن إعاقتهم هذه تحولت إلى وقود يشحذ هممهم وتجعلهم يبدون أقوى منا نحن «الأسوياء»!
نراهم ونرأف لحالهم وبعضنا يغرب بوجهه عنهم لأنه رقيق القلب بزيادة ولا تتمالك عيناه عدم صب الدموع أمام هذا المنظر الذي تتفطر له القلوب!... وعند هذه المشاهد امنح نفسك الفرصة لتنظر إلى الجهة المقابلة... إلى ذلك المعوق وهو يتلقى «الشفقات» منا... أراه شامخا بعزة وإباء رافضا شفقتنا، بل يشفق هو علينا... أخذته الكبرياء إلى أن يجير على نفسه فيقوم بكل ما يريد من دون طلب العون من أحدنا نحن الأسوياء... ونحن مازلنا نتمتم «مساكين»!
حينما أنظر إلى هذا الذي جعلنا إعاقته الجسدية سمة له لا تبارحه أبدا وألتفت إلى الجهة المقابلة لألمح شابا منا نحن الأسوياء فيه كل القوة والقدرة على العمل بل ويمتلك مؤهلات تمكنه (على الأقل) من كسب قوته بعرق جبينه لكنه أبى على نفسه العزيزة أن يعمل في عمل دون مستواه لا يستطيع من خلاله أن يوفر نصف ما سيحصل عليه من «الشحاتة» والتوسل إلى الناس!
إزاء ذلك أتساءل: من منا المسكين؟ ومن منا من يستحق الشفقة؟ بل من منا المعوق؟! أهذا الذي حافظ على عزة نفسه وكرامته ورفض لها الذل والانصياع؟ أم نحن الذين وهبنا الله كل القدرات فاستنفدناها فيما يحط بنا إلى الحضيض؟
كلما رأيناهم قلنا مساكين... أوما نظرنا إلى أنفسنا قليلا لنعرف من هو المسكين حقا؟... المسكين في القلب، والمسكين في العقل، والمسكين في العمل، والمسكين في الكرامة، والمسكين في الضمير، والمسكين في الدين والأدب والأخلاق، والمسكين في العلم، والمسكين في الابتسام، والمسكين في الذوق العام، والمسكين في الحب والوصل...
أحسبنا نحن المساكين من نحتاج إلى دور رعاية وبرامج تأهيلية تسمو بأرواحنا قليلا بعد أن جردناها من كل سمات «السوية»... هؤلاء المعوقون جسديا بحاجة إلى مكرمة شعبية تقدر إنسانيتهم العالية فتبادر إلى إخراجهم من حصار الإعاقة الذي قيدناهم نحن به وهم لا يستحقون... ولكن نحن، أسوياء الأجساد معوقو الضمائر والعقول، من لنا؟!
مع القراء
«وعدنا وأوفى بوعده»... مع قلة من يوفون بالوعود هذه الأيام... فالشكر موصول إلى الأخ حسن الساري الذي شرف صفحتنا من جديد بكاريكاتيراته الاجتماعية الإنسانية... وبانتظار إيفاء الآخرين بوعودهم... فيعودون إلينا من جديد كما عاد حسن والعود أحمد بإذن الله.
الأخت هدى نبيل مرزوق... اعتذر لعدم نشر موضوعك هذا اليوم كما وعدتك وذلك لأمر خارج عن نطاق إرادتي... إذ يبدو أن «الديسك» الذي بعثته إلى الصحيفة «تعبان كثير» فلم أتمكن من قراءته، وكونك لم تزوديني برقم هاتفك لم أجد بدا من توجيه النداء عبر هذه الزاوية وأتمنى الإجابة بسرعة
إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"العدد 769 - الأربعاء 13 أكتوبر 2004م الموافق 28 شعبان 1425هـ