في اليوم الذي تلا افتتاح معرض فرانكفورت الدولي للكتاب في دورته السادسة والخمسين، دخل مدير المعرض فولكر نويمان القاعة الرئيسية التي وقف فيها قبل يوم المستشار الألماني غيرهارد شرودر والأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى ومجموعة من الخطباء، عبروا جميعهم عن الأمل في أن يسهم البرنامج الرسمي الذي أعدته جامعة الدول العربية للمشاركة العربية في أهم معرض عالمي للكتاب، في تعزيز الحوار بين الشرق العربي الإسلامي والغرب المسيحي. بقي نويمان يتفرج بعض الوقت على التصميم الذي أعد في الجناح العربي وحوّل مساحة صغيرة من أرض المعرض إلى واحدة من جنات عدن.
كان هذا الإطار الجميل مهماً من الناحية الدعائية، فقد شعر مدير المعرض أن فعالية هذا العام ستحقق النجاح المطلوب، وأن مشاركة العالم العربي كضيف شرف في المعرض، ستكون محل نقاش، وهو أمر مهم جداً للترويج لسمعة الفعالية. غير أن نويمان كان يفضل أن يدور النقاش حول الأدب العربي لأن قرار اختيار العالم العربي ضيف شرف هذا العام هو بالأساس حصول العرب على فرصة لتحسين الصورة المشوهة عن العرب والإسلام في الغرب، والتي لم تكن لتتعرض لهذا القدر من التشويه والتجريح لولا رواج أحكام مسبقة عن العرب والإسلام، إذ وجد أعداؤهما فرصة ملائمة للمضي في ذلك، بعدما قام به أصوليون، في الولايات المتحدة، بالي، جربة، مدريد، الرياض والدار البيضاء. كما تم تجاهل حقيقة واضحة هي أن فئة صغيرة تتحمل مسئولية هذه الحوادث ولا يمكن تحميل العرب والمسلمين عموماً مسئوليتها، بل إن العرب والمسلمين أدانوا هذه الجرائم بكل وضوح.
المشاركة العربية في فرانكفورت، شوكة في عين الخصوم، الذين لم يتحملوا رؤية العالم العربي يطلّ بثقافته التي جعلت الغرب يتعرف على علوم الفيزياء والطب والفلك وكثير من المعارف. وحاولت منظمات صهيونية نشطة في ألمانيا كل ما بوسعها للتشويش على هذه المشاركة، وأوفد مركز سيمون فيزينتال اليهودي مجموعة من الطلبة اليهود الألمان للتظاهر أمام الجناح العربي بحجة عدم وجود ديمقراطية في العالم العربي وعدم وجود حرية للكتاب العرب. وسعى هؤلاء إلى التحريض على المشاركة العربية كما سعى المركز اليهودي إلى الزج بالقضاء الألماني حين شكا من وجود كتب في الجناح العربي تحتوي على نصوص معادية لـ «إسرائيل»، ما لا يتفق مع القانون الألماني على حد زعم المركز، فهل معنى ذلك أن القانون الألماني يمنع توجيه انتقادات لـ «إسرائيل»؟
ولم يقتصر الشك بنجاح المشاركة العربية على وسائل الإعلام الألمانية على رغم أن عيبها كان واضحاً، فقد دلت هذه المشاركة على أن وسائل الإعلام الألمانية ينقصها النقاد الذين بوسعهم الحديث بنزاهة عن أدب الشرق العربي. وبعض كبريات الصحف الألمانية فضلت نشر مقابلات مع مؤلفين وناشرين عوضاً عن تقديم معالجة للكتب العربية التي ترجمت للغات أجنبية وبلغ عددها أكثر من خمسمئة كتاب، لتعطي زوار المعرض فكرة عن النتاج الأدبي العربي.
أينما حل العرب، رافقتهم هموم السياسة. لا عجب، فالعالم العربي محط أنظار العالم وخصوصاً بعد هجمات نيويورك وإعلان الحرب المناهضة للإرهاب، ولنقلها بصراحة، على العرب والمسلمين.
كلمات الافتتاح لم تخل من المواقف السياسية، بل إن البعض تطرق للسياسة أكثر من حديثه عن الحوار الثقافي الذي هو أمل المشاركين العرب. وفي كلمته تحدث المستشار الألماني شرودر عن نزاع الشرق الأوسط وأعرب عن أمله في أن يتوصل الفلسطينيون والإسرائيليون إلى حل. كما تحدّث عن العراق وعزم ألمانيا المساهمة في إعادة تعميره، لكنه سكت عن جرائم شارون.. ربما خوفاً من دعوى يرفعها مركز سيمون فيزينتال ضده لانتقاده «إسرائيل».
ربما كانت التوقعات كبيرة جداً في فرانكفورت، وقد يتفق المعلقون أو يختلفون على النتائج. طبعاً كانت الآمال معلقة على أن يقوم حوار ثقافي يشارك فيه جمهور عريض، وقد يكون الطابع الرسمي للمشاركة العربية، سبباً في الانطباع بأن المشاركة العربية، أتت لتتحدث باسم الأنظمة والحكومات العربية، وهو ما أثاره بعض الكتاب العرب الذين يعيشون منذ سنوات طويلة في المهجر الأوروبي.
في فرانكفورت وضحت صورة الحوار والتبادل الثقافيين بصورة أكبر. وضع الكتاب في العالم العربي مازال هزيلاً، قياساً بالحضارات الأخرى، ونظراً إلى العدد الكبير من المؤلفين العرب الذين لو غربت شمس الرقابة عنهم لزادوا إبداعاً، ولو أن دور النشر الغربية، لديها اهتمام بترجمة كتب عربية، لتنوير جمهور يحكم على العرب والإسلام من خلال ما يقال وينشر عنهم في وسائل الإعلام الغربية، التي ليست في الغالب، منصفة بحكمها على الحوادث. فالواقع الفلسطيني تغطيه دائماً صور ما يسمى بإرهاب الإسلاميين المتطرفين، وهكذا يجري تبرير قتل الفلسطينيين مثل الخراف. وهكذا يجري السكوت عن حق شعب العراق في العيش في سلام وإجلاء الاحتلال عنه.
إن الحديث عن المشاركة العربية في فرانكفورت لا ينبغي أبداً أن ينتهي لمجرد أن المعرض أغلق أبوابه يوم الأحد الماضي، فهناك واجبات فرضها هذا الحادث المهم على العرب والغرب. فمن الباب الثقافي ينبغي قيام حوار بناء بصورة أقوى من السابق بين الأدباء والمفكرين العرب والغربيين في سياق ندوات تقام تارة على أرض عربية وتارة على أرض غربية. إلى ذلك ينبغي رصد مبالغ معتبرة لتشجيع ترجمة الكتب والمؤلفات العربية إلى لغات أجنبية وبالعكس، كذلك دعوة مثقفين غربيين للمشاركة في فعاليات معارض الكتب التي تقام في العالم العربي، وأن تعالج وسائل الإعلام الغربية حوادث العالم العربي بجرأة أكبر والتخلي عن العمل بشعار «(إسرائيل) أولاً وأخيراً».
من جانب آخر يجب إتاحة الفرص للعرب للتعبير عن وجهات نظرهم حيال الحوادث الجارية في منطقتهم، وعدم ترك ذلك لمن يطلق عليهم وصف «خبراء في الإسلام والاستشراق». وأخيراً، الدعوة إلى ربط الحضارات وتعزيز الروابط بينها والبحث عن القيم والمبادئ فيها لتأكيدها. وتحقيق هذه الأمور ليس مهمة عسيرة ولا يسيرة، ولكن الحوار يبقى أبرز جسر نهضوي إنساني، يتحتم علينا جميعاً أن نبنيه ونحميه من السقوط
العدد 769 - الأربعاء 13 أكتوبر 2004م الموافق 28 شعبان 1425هـ