العدد 768 - الثلثاء 12 أكتوبر 2004م الموافق 27 شعبان 1425هـ

استبداد الفيتو واغتيال القرارات

فكتور شلهوب comments [at] alwasatnews.com

إذا كان الشرق الأوسط مبتلىً، كما يقال، بالاستبداد والمستبدين، فإنه بالتأكيد لن يحتكر هذا الكار ولا أربابه. غيره يمارسه أيضاً - ليس بالضرورة في ميدان السلطة والحكم - في عزّ النهار وبصفاقة ومنهجية، لا تقل فتكاً، من غير أن يرفّ له جفن، لا فرق كيف تحصل الممارسة. فالاستبداد فنون وضروب. كلها تلتقي وتصبّ عند نتيجة واحدة: اغتيال الحقوق وترسيخ الظلم والمظالم.

من أبرز هذه الضروب في هذا الزمن، هو استخدام واشنطن لسلاح الفيتو، الذي تملكه في مجلس الأمن الدولي، ضد القضايا العربية عموماً. وتحديداً القضية الفلسطينية. فالولايات المتحدة، التي تأخذ على المنطقة وتسجل ضدها عيوب عدم احتكامها للقانون ولأصول اللعبة الديمقراطية، ناهيك عن العمل بمبدأ التصويت الاختياري والتعبير الحرّ عن الرأي، لا تتردد لحظة في كسر كل هذه القواعد وممارسة دور الحاكم المستبد في مجلس الأمن، لاغتيال أي قرار يخدش خاطر «إسرائيل»، فكم بالحري إذا كان يدينها، وهي في ذروة عدوانها.

آخر الغيث في هذا الخصوص كان القرار الأخير، قبل أيام، الذي تقدمت به المجموعة العربية والذي دعا إلى مطالبة «إسرائيل» بوقف اجتياحها الوحشي الدموي لقطاع غزة، والذي لم تعرف الأراضي المحتلة مثيلاً لشراسته، منذ اندلاع الانتفاضة قبل أربع سنوات. وحدها واشنطن وقفت ضدّه وأسقطت القرار. إحدى عشرة دولة وقفت إلى جانبه. وثلاث دول لم تعترض ولو اختارت التغيّب عن التصويت. والذريعة الأميركية كانت، كالعادة، أن القرار «غير متوازن»! تماماً على طريقة «عنزة ولو طارت». هل ثمة استخفاف واستهتار أكثر من ذلك؟ عدوان فاقع فاجر فاضح، لا يقوى مجلس الأمن الدولي، المؤتمن على السلم العالمي، على رشقه ولو بوردة، فقط لأن صاحبه الكيان الصهيوني ولأن هذا الكيان ينعم بالمظلة الأميركية الواقية. وقد ضربت إدارة بوش الرقم القياسي في حماية «إسرائيل» بمجلس الأمن. استخدمت الفيتو لصالحها سبع مرات. فقط منذ نحو سنة وحتى اليوم أسقطت ثلاثة قرارات ضد «إسرائيل» واعتداءاتها - واحد بخصوص عزم حكومة شارون على ترحيل الرئيس الفلسطيني وآخر ضد إقامة جدار الفصل العنصري، والثالث قبل أيام - كما أطاحت بقرار آخر من خلال التهديد بالفيتو ضد شكوى سورية على تل أبيب، في أعقاب العدوان على منطقة «عين صاحب» القريبة من دمشق نهاية صيف 2003. وهي نسبة تفوقت على تلك التي سجلها الاتحاد السوفياتي السابق - 120 فيتو على امتداد 46 سنة - الذي كان يؤخذ عليه الإسراف في اللجوء إلى هذا السلاح.

ومثل هذا التمادي غير المسبوق في سوء استعمال الفيتو، الذي كان المقصود به عند منحه للدول الكبرى أن يكون بمثابة صمام أمان رادع ضد القرارات الجائرة أو الخطيرة له دلالات تتجاوز بكثير حسابات اللحظة الانتخابية الراهنة في الولايات المتحدة. فهو زيادة تقزيم للأمم المتحدة التي جرى ازدراؤها وتجويفها بشكل فاقع وخطير عشية الحرب على العراق. كما أنه تعبير عن تبني سافر للعدوان الإسرائيلي الاحتلالي واعتباره الشريك الأساسي في الهجمة الجارية على المنطقة.

لكن قبل كل شيء، يأتي هذا الفيتو بفجاجته التي لا مثيل لها، ليعكس بصورة غير مباشرة مدى الانفراط العربي عموماً، وبالذات الانفراط من حول أعزّ قضية في المنطقة، والذي أسس لإسقاط قرار يدعو إلى وقف عدوان همجي مكشوف، ضد شعب أعزل وهدم البيوت فوق رؤوس أصحابها، ناهيك عن تخريب الأرزاق واقتلاع السكان وسقوط الضحايا بالعشرات، خلال أيام، في صفوفهم.

صحيح أنه ليس الفيتو الأول لحماية «إسرائيل»، وصحيح أن مجلس الأمن الدولي تحوّل وإلى حدّ بعيد إلى مصفاة للقرارات التسويغية المتعسفة التي تريدها واشنطن وإلى مقصلة للقرارات التي لا ترضى عنها. لكن الصحيح أيضاً وربما أساساً، أن الساحة خالية أمام إدارة بوش، عندما يتعلق الأمر بالقضايا والملفات العربية. فالمساحة العربية من هذه الساحة غدت ساحات. كل واحدة مشغولة بمحاولات الحفاظ على تخومها وأوضاعها. بل كل منها همّه - تحت يافطة الحكمة والحذر - عدم إغضاب الجرّافة الأميركية البوشية ومحاولة كسب ودّها. والمساحة الدولية منها، ليس بوسعها أن تكون ملكية أكثر من الملك. فهي عندما ترى هذا الصمت العربي، المرادف لصمت القبور إزاء ما يجري في قطاع غزة، هل من المتوقع أن يلزم بعضها نفسه بأكثر من الامتناع عن التصويت - ألمانيا وبريطانيا ورومانيا - ففي استفتاء أخير رأى 84,6 في المئة أن غياب الإدانات الدولية لمجازر «إسرائيل» يعود إلى السكوت العربي الرسمي والشعبي عليها! وهكذا كان الأمر وإلى حدّ بعيد، بالنسبة إلى القرار 1559 بخصوص لبنان وسورية. ست دول امتنعت، تعبيراً عن اعتراضها على الموقف الأميركي بما هو تدخل في الشأنين السوري واللبناني، بغضّ النظر عن الحيثيات. لكن الاعتراض لم يترجم إلى موقف معارض صريح. وأحد الأسباب الرئيسية أن بقية العرب تجاهلوا الموضوع ولم يروا فيه تدخلاً غير مقبول. فقط رأوا، قبل أشهر، في مطالبتهم بالإصلاح تدخلاً في أمورهم الداخلية لابدّ من رفضه! والصمت لم يكن السمة الوحيدة للموقف العربي. كان فيه أيضاً التضارب بشأن هذه القرارات - وخصوصاً القرار 1559، وغيرها. بل بشأن ما هو أبسط منها. وقد شهد العالم نموذجاً من هذا التباين، خلال الدورة الجارية للجمعية العمومية للأمم المتحدة، عندما بدا أن الدول العربية باتت عاجزة عن التوافق على طرح موحد إزاء موضوع توسيع مجلس الأمن وزيادة عدد مقاعد الدول الكبرى أو الوازنة التي تملك حق الفيتو فيه. مصر كان لها تصور. وهكذا سورية، ناهيك عن ليبيا التي رأت أنها الأنسب لتمثيل إفريقيا وليس العالم العربي الذي لم تأتِ على ذكره بالاسم. فهل يمكن أن يحسب لمثل هذا التشرذم حساب؟ حتى على مستوى توزيع مقاعد، فكيف إزاء الصراعات والنزاعات المصيرية الجارية فوق أرض المنطقة؟ إيران، تمكنت دبلوماسيتها، حتى الآن على الأقل، وعلى امتداد السنة الماضية من استقطاب مواقف دول وازنة إلى جانبها - أو على الأقل إلى عدم الوقوف بجانب واشنطن - في موضوع النزاع الدائر حول الملف النووي الإيراني. مقارنة مع هذا الملف وخطورته كان بإمكان الدبلوماسية العربية، لو أنها فاعلة ومحتفظة بالحد الأدنى من الأرضية المشتركة، أن تنتزع بسهولة قراراً، على الأقل، بوقف العدوان المتواصل على غزّة. لكن حتى مثل هذا الهدف المتواضع صار بعيداً عن متناول يدها. فحصانتها سقطت يوم سقطت بغداد. والآتي أعظم

العدد 768 - الثلثاء 12 أكتوبر 2004م الموافق 27 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً