التاريخ لا يكتبه إلاّ المنتصرون. أما المغلوبون فهم الذين يصبحون لعنةً في فم الزمان. ومن يجلس على فوهة الكنز هو الذي يملي رغباته على المؤرخين ليكتبوا فضائله ويصنعوا له تماثيل من الرخام المزيف! فهل تخرج الهيئة على هذه القاعدة؟
من هنا فان البحث عن منمنماتها المتفرقة هنا وهناك لتركيبها في لوحة مكتملة، عملية صعبة، إذ غالباً ما يتم البحث عنها في الكتب والمذكرات. لكن المؤرخين يأخذون بمصدر آخر من مصادر التوثيق في كتاباتهم، وهو التلقي من الشفاه. وهم إذا كانوا يعتمدونه علمياً، فإننا نأخذه لما فيه من «لمسة إنسانية» تخاطب القلوب في وقتٍ بتنا فيه أكثر ظمأ للحقيقة المسفوحة على مذبح النفاق والتدجيل والمتاجرة بعرض الوطن وكرامته.
في ذكرى العام الماضي حاولت أن أكتب شذراتٍ من تاريخ الهيئة، ليس من الكتب والمذكرات، وانما من أفواه الرجال الذين عاصروها، فما أجمل أن تسمع التاريخ من أفواه معاصريه. كنت أبحث عن رجالٍ من البسطاء، من الجيل الذي عاصر الهيئة، فالتقيت بعدد من الجيران كبار السن: الحاج جمعة، الحاج حسن، الحاج علي. هالني أن الأول لم يكن يتذكر شيئاً عن تلك المرحلة الحاسمة في تاريخ الوطن، كان مزارعاً يعمل في حقله طوال يومه على مدار خمسين سنة، منكباً على الأشجار يقلّمها ويرويها بعرقه قبل ماء الجداول والآبار. المزرعة انتزعت منه ويعمل فيها عدد من الآسيويين لصالح أحد المتنفذين، والجداول جفت، ولم يعد يقوى الآن على مغادرة بيته.
وفوجئت أن الثاني كان يخلط بين أيام «الهيئة» وبين حوادث الستينات، فيما الثالث كان ينطق اسم عبدالرحمن الباكر باسم «الباقر»، فكتبته كما لفظه بالضبط، والطريف ان مصحّح الصحيفة لم ينتبه إلى هذه اللفتة، فقام بتغييره إلى الباكر، فلا يصحّ إلا الصحيح!
الشاب على الدراجة الهوائية
عندما عدت إلى والدي في ذلك المساء، وجدت عنده بقايا حكايات من ذلك الزمان القديم. كان يروي لي كيف كان يذهب من منطقة البلاد القديم إلى المنامة على دراجة هوائية بين البساتين، إذ يجتمع الناس في مسجد مؤمن، ويقوم الخطباء بقراءة البيانات على الجمهور. وكان يجلس قريباً من المنبر للاستماع إلى الكلمات، ليعود على دراجته الهوائية حيث يستقبله الناس في منطقته، ليقفوا على آخر الأخبار. وكان يصف لي الأجواء الحماسية التي تعمّ الناس وهو ينقل لهم ما قاله قادة الهيئة. كان يتكلم عنهم بإكبار، ويتوقف كثيراً عند «الشملان»، الذي كان مديراً للبنك، وخُيّر بين التخلي عن العمل السياسي أو التنازل عن الوظيفة الكبيرة والراتب الضخم، ففضّل التنازل عن الوظيفة على التنازل عن العمل للوطن.
هذه هي أنقى وأوضح صورة استطعت أن أخرج بها مما تبقى في عقول أولئك الرجال. وهي كما ترون صورة باهتة أقل بكثير من المتوقع. هل نلوم الذاكرة التي لم تعد تحتفظ بتفاصيل حوادث مرّ عليها أكثر من خمسين عاماً؟ هل نلوم جيل الآباء الذي لم يكن يمتلك القلم ليدوّن المذكرات؟ وهل نحن ندوّن مذكراتنا اليومية؟ هل نلوم الجيل الذي لم يكن لديه من مصادر الأخبار غير النقل الشفوي اعتماداً على شاب يتنقل على دراجة هوائية ويشق طريقه إلى المنامة في أوقات حظر التجول حتى ينقل للناس بيانات قادة الحركة؟ هل نلوم جيلاً عاش وضحى وقدّم الدماء والجراحات من أجل الوطن وكرامته وشيوع العدالة في أرجائه، فقط لأنه لم يحتفظ بالتفاصيل؟
نحن جيل الانترنت و«الفضاء الحر»، الذي ينام ويصحو على آخر الأخبار عبر الفضائيات، هل نقوم بما قام به الآباء الطيبون من أجل التقارب والتقريب وتوحيد القلوب؟ أم اننا نعيش عصر الردة على كل الثوابت، بحيث يصل الوضع إلى التحفظ على تقديم صدقاتنا إلى بعضنا بعضاً، فنرسلها إلى أفغانستان والعراق ودول أفريقيا بدل أن نشبع بها جائعاً من الجيران من الطائفة الأخرى! ويصل الأمر إلى دعوة أحدهم في عموده جهاراً نهاراً، إلى عدم الدخول في اتحاد الصناديق الخيرية الموحد «لأنهم سيسيطرون عليه، ولأن أموالنا ستصبّ في صنايقهم»! منطقٌ لا يستقيم مع توجه الإسلام الحنيف الداعي إلى البرّ والتراحم، ونفسيةٌ تعكس البعد الكبير عن روح المواطنة الحقة المرجوة لعلاج هذا البلد الجريح. كل ذلك يُكتب ويُنشر... وموجة «الصحوة» التي استبشرنا بها خيراً، تأخذ مداها حتى يستحل بها البعض دماء بعض. فهل من ضوءٍ في آخر النفق؟
الحاج جمعة لم يعد قادراً على الخروج من بيته، والحاج علي كان يتماهى لديه اسم الباكر و«الباقر»، أما ذلك الشاب الذي كان يوصل أخبار الهيئة على دراجةٍ هوائيةٍ قبل خمسين عاماً إلى أهالي البلاد القديم، فيرقد اليوم في سرير المستشفى، يعاني من مرض القلب
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 768 - الثلثاء 12 أكتوبر 2004م الموافق 27 شعبان 1425هـ