الجماهيرية العربية الليبية، الدولة العربية والإفريقية المستقلة منذ العام 1951م، ويتزعمها العقيد معمر القذافي الذي قاد ثورة الفاتح من سبتمبر/ أيلول 1969 تحت قيادة تنظيم «الضباط الوحدويين الأحرار»، وقيل في حينها إن الشعب استجاب لهذه الثورة والتف حولها وأيدها في إلغاء الملكية وتأسيس الجماهيرية القائمة فعلاً في يومنا. وتعتمد ثورة الفاتح على سياسة القومية العربية والنظام الاشتراكي، وقد سعى الزعيم الليبي منذ وصوله وحتى وقت قريب إلى قيام وحدة عربية، ثم اتجه إلى وحدة إفريقية بعد أن اعتقد بعجز العرب عن التوحد، وكثيراً ما عبّر قائد ثورة الفاتح عن موقفه الرافض للوضع العربي المتردي من خلال إبداء رغبة بلاده الانسحاب من الجامعة العربية تارة، والانسحاب من جلساتها تارة أخرى. وربما لا يفعل القذافي ذلك إلا للفت الأنظار كما يرى بعض المحللين، إذ إنه ليس من المعقول أن يتوحد العرب في حال انسحاب دولهم من الجامعة العربية فالمطلوب هو إصلاح ذات البين لدينا وقبله إصلاح الذات العربية. أما ما يقدمه القذافي من أفكار ومشروعات لتوحيد الصف العربي فإنها تبدو أفكاراً غير منظمة وغير واضحة، وقد يتخلى عنها هو نفسه هكذا فجأة ومن دون مقدمات. وليس ذلك غريباً على ليبيا القذافي، بل يبدو هذا منهجها السياسي الذي يبدأ اللعب لينتهي إلى التراجع والتخلي عن المبادئ التي يرفعها.
ومن قبيل ذلك على سبيل المثال لا الحصر، عداؤه للولايات المتحدة التي شنت غارات على ليبيا العام 1986م ثم اتهام الدولة الليبية بإسقاط طائرة بانام الأميركية فوق مدينة لوكربي ومطالبة واشنطن بتعويضات عن ضحاياها المئتين والسبعين، لكن القائد الفاتح كان يشترط التعويض عن ضحايا الهجمة الأميركية، وبعد مفاوضات شاقة ومضنية وحصار خانق على الشعب الليبي وإنكار قاطع للمسئولية، تنازل الزعيم عن كل تلك الأفكار ودفع للولايات المتحدة 2,7 مليار دولار، وأكثر من ذلك سلّمها برامجه وخططه النووية ووطد علاقاته معها لتحسين صورته أمام سيدة العالم أكثر من أي شيء آخر! هذا والعلاقات مع أميركا ليست عيباً في حد ذاته إنما العيب هو التبعية لأميركا.
وليبدي حسن نيته في زيادة عمق الصداقة الغربية الليبية يرفع القذافي من قيمة التعويضات التي دفعها عن إسقاطه لطائرة «يو تي ايه» الفرنسية ثم يطير إلى بروكسل برفقة حارساته الأربع، وبعدها يقوم بتعويض ضحاياه الذين قضوا في ملهى ليلي في برلين العام 1996، وتتولى دفع التعويضات عن الملهى الليلي مؤسسة القذافي الخيرية.
هل هكذا تكون القومية والدفاع عنها أو عن غيرها؟ أم هذه هي استراتيجية الثورة العظمى، تفجير الطائرات والمراقص؟ فكما نرفض التصرفات الأميركية من مجازر واحتلال فإن تصرفات الدولة الليبية أو قيادتها بالأحرى مرفوضة أيضاً. وإن كان ذلك في علاقات ليبيا مع الغرب وقد وطدتها معه بشكل غير مسبوق، فإنها على غير ما يرام مع الشرق ولم يحصل شيء في أمرها. وباعتقادنا أنه كان حرياً بالقذافي تسوية علاقاته العربية أولاً وتحسينها، فالكثير من الشوائب تشوب علاقات ليبيا ببعض الدول العربية، أهمها المملكة العربية السعودية بعد التلاسن الشهير في قمة شرم الشيخ بين القذافي والأمير عبدالله، إذ قال وزير الخارجية السعودي عندها إن ما حدث هو سحابة صيف والعلاقات لم تتأثر، بيد أن الأمر للأسف لم ينتهِ عند هذا الحد وانما أصبح الحديث يدور حول مسئولية القذافي عن محاولة اغتيال الأمير عبدالله، وهو أمر غير مؤكد إلا أن الكثيرين يشككون في صحته، وخصوصاً أنه صدر من واشنطن في بادئ الأمر وليس من الرياض.
وكذلك علاقته بمحاولة الانقلاب الأخيرة في موريتانيا، نعم... قد يكون النظام في نواكشوط أو في غيرها دكتاتورياً قمعياً يخنق الحريات، إلاّ أن هذا لا يعني ضرورة تدخل القيادة الليبية في شئون تلك الدول الداخلية واستبدال أنظمة الحكم فيها بيدٍ ليبية، وكيف يمكن لنا أن نتصور نظاماً جديداً لموريتانيا يكون أفضل من سلفه إذا عينته ليبيا؟ كل هذا إن سلمنا بالادعاء الرسمي الموريتاني. وحتى مع عدم تسليمنا به، فإن الاتهام لم يأتِ من فراغ، وأول ما يدفع لصحة تلك الشكوك هو التاريخ الليبي الذي يروي لنا أفعالاً مشابهة.
وهناك أيضا العلاقة مع لبنان التي تبدو الأكثر توتراً، بعد اختفاء رئيس المجلس الشيعي الأعلى الإمام موسى الصدر قبل سبعة وعشرين عاماً، إذ اختطف بعد توقفه في مطار طرابلس قادماً من دمشق، وكان من المقرر أن يلتقي الإمام الصدر بالقذافي، إلاّ أن أخبار الإمام ورفيقيه انقطعت منذ ذلك الحين، ولايزال القذافي ينكر أية صلة له بالاختطاف، ويقول إن الصدر غادر إلى إيطاليا فيما يؤكد لبنان وجوده ورفيقيه في السجون الليبية.
وقد اعتدنا على الأسلوب الليبي القائم على المماطلة والمراوغة، ثم الإدلاء بالاعتراف حتى على الورق دون مسئولية، فليس من المستبعد أن يعلن المسئولون في ليبيا استعدادهم لكشف مصير الإمام، أو الدخول في مفاوضات لتعويض ذويه! لقد استمرت قضية الإمام الصدر أكثر من اللازم وعلى ليبيا الكف عن الأساليب الملتوية.
أما عن تدخلات القذافي في إفريقيا، فأبرزها دخول قواته المسلحة إلى تشاد الأمر الذي خلق نزاعاً ليبياً فرنسياً على الدولة الإفريقية.
إن كل تلك أمثلة على تصرفات القيادة الليبية لا تدلل البتة على دعم المقاومة وحركات التحرر، وهو ما لا يكون باختطاف القادة أو الاغتيالات أو التفجيرات، وهو ما لا يخدم قضايانا التي يدعي النظام الليبي الدفاع عنها. والغريب أن الرئيس الذي يعبر عن دعمه أحياناً بالمظاهرات على رأس أفراد شعبه، كيف يترك القائد مسئوليته الجسيمة بقيادة الدولة إلى تأليف الروايات والقصص؟! بل انه خلال «مسيرته الكبرى» إبان عملية الدرع الواقي في أبريل/ نيسان 2002 طالب القذافي بحلّ الجيوش العربية كلها، إلاّ أنه لم يعلن حلّ الجيش والقوات المسلحة الليبية!
إن القيادات وحكومات الدول يجب أن تتصرف وفق استراتيجية تنظر لأبعد مدىً ممكن، وقيادة لديها بُعد نظر وشرعية خاضعة لدستور دائم، أما ما نجده في الدول العربية فهو خضوع لمزاج الأخ القائد المتقلب وقراراته العصبية التي قد يتراجع عنها بعد قليل أو كثير. فمثل هذه القيادات العربية ليست على المعرفة والدراية والثقافة التي تؤهلهم لاحتلال مراكز عليا والإمساك بزمام الرئاسة، فهم لا يرون أبعد من أنوفهم، ويعتقدون أنهم فوق القانون وفوق كل مساءلة، إذ تتغلب المصالح الشخصية على المصالح الوطنية. زعاماتٌ لا تحترم نفسها وبالنتيجة لا تحترم شعوبها... وهذا بالضبط تكرار للمشهد العراقي الذي سيطر عليه صدام ثلاثين عاماً
العدد 767 - الإثنين 11 أكتوبر 2004م الموافق 26 شعبان 1425هـ