العدد 767 - الإثنين 11 أكتوبر 2004م الموافق 26 شعبان 1425هـ

مدينة قرطبة والتقارب بين الشرق والغرب

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

ضجت ليالي قرطبة في الأيام الأولى من الشهر الجاري بصخب غير مسبوق في المدينة ذات الثوب العربي القديم واللسان الاسباني الحديث، والتي عادة ما تكون وادعة ساكنة، اختلط اللسان العربي باللسان الاسباني بالانجليزي والفرنسي في نقاشات معمقة، وكانت المناسبة هي لقاء نظمته مؤسسة البابطين الثقافية بمناسبة ألفية الشاعر العربي الإسلامي العاشق ابن قرطبة «ابن زيدون»، وعلى هامش ذاك اللقاء تم لقاء آخر مكمل هو ندوة الشرق والغرب صراع أم شراكة؟

وليومين على التوالي دارت المناقشات بين متخصصين غربيين وعرب ومسلمين لدراسة الوضع القائم والشائك بين حضارتين عربية مسلمة، تشكو من الفهم المبستر لقيمها الكبرى في الغرب، وبين غربية لها شكوى مضادة من هجرة متدفقة الى ارتياب شديد.

كان اللقاء محاولة جادة لتفكيك تلك الهواجس بين الطرفين وإرجاعها لجذورها، لعل بالمستطاع تضييق الهوة في المستقبل وتجسير هذه العلاقة المتشابكة والمعقدة من أجل تصحيحها وتقويمها.

محاضرون غربيون من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأميركا وغيرها من بلدان الغرب، ومحاضرون عرب ومسلمون تبادلوا النقاش تحت شعار عام، هو البحث عن هوامش مشتركة لنقل الجميع من الصراع الى التوافق.

اتضح أن هناك عددا من النقاط الحاكمة في العلاقة الشائكة تبلغ في مركزيتها وكثافتها ثلاثا:

الأولى ان هناك انتشاراً لوعي سلبي غير عقلاني محدود بكثافة الإعلام ان لم يكن مضللاً بها، لكل طرف بالآخر. وهذا الوعي السلبي سببه إما الجهل، وهو الشطر الغالب في تكوين هذا الوعي، أي الجهل بالأخر، بثقافته وقيمه، وما يريد ويرغب في تحقيقه، وإما أنه قد تشكل بسبب مصالح لفئات مختلفة تريد تأكيد مصالحها على حساب الآخر، وتندرج تحت هذا الباب مصالح استراتيجية واقتصادية وثقافية شتى. وقد تكرس هذا الوعي السلبي عبر فترة تاريخية طويلة من الزمن، حتى أصبحت أسبابه مستعصية على السبر.

بسبب هذا الوعي تكونت «نمذجة» للغربي في ذهن العربي والمسلم، وهي في الغالب سلبية، و«نمذجة» مضادة للعربي والمسلم في ذهن الغربي المعاصر، بها من الشوائب ما يفوق الحصر. ولا أحد يقطع علمياً أن الأولى كانت سبباً في الثانية، أو أن الثانية كانت سبباً في الأولى، فقد اختلط السبب بالنتيجة الى درجة أرقت الباحثين المنقبين عن الحقيقة التي ضاعت بين هذا الضباب الكثيف.

من نماذج الوعي السلبي ما تهدد به الأمهات أطفالها في إسبانيا اليوم (أتسكت عن الصياح وإلا ظهر إليك المورو) بشد الميم، وهم العرب! في تهديد واضح يشب عليه الأطفال كي يختلط الشرّ بالعرب اختلاطاً لا فكاك منه. كما تحمل الثقافة الغربية الشعبية في أول وعيها بالنصوص العربية نص «ألف ليلة وليلة» الذي يؤسس للشرق الخيالي الرومانسي في ذهن الغربي، فيصبح فاقد الواقعية العملية.

تلك الغصة الدفينة والتاريخية بين الثقافتين تختفي تحت السطح مؤقتاً، ولكنها تتداخل في تضاعيف الثقافة الشعبية، نتيجة لصراع قديم وطويل، صراع الفرس مع اليونان في التاريخ الغابر، وصراع الحروب الصليبية، وفيه من الآلام ما يستدعى كل الحسرة في كل ما تتنفس فيه الثقافة، إلاّ أنه تجدد وبقوة في عصرنا الحديث، فهناك عدد من الكتب في المكتبات الاسبانية اليوم، كما أشار احد المتحدثين، تستدعى من جديد تلك الصورة السلبية، وخصوصاً بعد حوادث مدريد في الحادي عشر من مارس/ آذار الماضي، التي راح ضحيتها أبرياء عزل، أعادت كل صور الآلام التاريخية للمشهد المأزوم بين الغرب والعرب من جديد.

إلا أن الوعي بالمصالح الحديثة هو المؤثر الأكبر في العلاقة الشائكة بين الغرب والعرب المسلمين اليوم، وهي مصالح تبدأ بالاستعمار الغربي الحديث لديار العرب والمسلمين ولا تنتهي بها. وفي طريق الصراع ذاك تظهر عقبات كأداء تعززها هذه المصالح، فقد أعطى الغرب، على سبيل المثال لا الحصر، ما لا يملك لمن لا يستحق، وأعنى هنا تحديداً مساهمة الغرب الحديث في فتح جرح نازف لم يندمل، وهو الموضوع الفلسطيني، الذي يمزق كبد العربي والمسلم كل يوم وهو يشاهد تلك المناظر التي تشوه الحضارة، أية حضارة، فهي تقتل الأطفال والنساء بسخاء عجيب في موسم ما سميته في الندوة «زمن القتل المجاني للعرب».

وقف في هذا الأمر موشي فردمان، وهو قائد يهودي من النمسا ينشط في حركة اليهود المضادين للصهيونية كحركة سياسية استيطانية، ليؤكد في الندوة ما ذهب إليه كثير من المتحدثين، وهو أن لا تبرير عقلاني للعداء بين الأديان، وهو قول كرره كثيرون، وأثبتت صدقه تاريخ قرطبة المضيء في التعاون والقبول بين معتنقي الأديان السماوية. إلا أن الاستخدام السلبي للأديان في السياسة والذي غمر المعمورة في العقود الأخيرة زجّ بأفضل المثل وأعلى القيم في أتون السياسة المتحرك والملتبس والمتناقض.

والنقطة المركزية الثانية هي علاقة «الأقليات العربية والمسلمة» في الغرب بالدول المضيفة، أو الأوطان الجديدة، وتشابكها مع مصالح وقضايا الأوطان الأم. فلم تعد تلك الأقليات العربية والمسلمة من الجيل الأول أو حتى الثاني، بعضها أصبح من الجيل الثالث الذي لم يعرف أرضاً أو مجتمعاً غير ذاك الذي ولد فيه، وهي مدن الغرب، إلاّ أن تلك الأقليات لأسباب شتى، تعود من جديد للتمثل بصراعات الأوطان الأولى، ربما بسبب عدم قدرة المجتمعات الغربية على الاستيعاب الثقافي والاقتصادي لهذه الفئة الكبيرة من المهاجرين، فهم مازالوا أغراباً في أوطانهم الجديدة، فيحنون الى القديم والأصيل، ويتمثلون جميع القضايا ذات العلاقة بوطنهم الأم، ويدافعون عنها بحرارة، ربما بسبب ما يعانونه من اغتراب في أوطانهم الجديدة. ويتألم البعض من العرب، من جهة أخرى، فمن خلال تلك الأقليات صدر لنا الغرب الكثير من الأفكار التي أخلت بالنسيج الاجتماعي في بلادنا. فالامازيغية، كما يرى بعض المتدخلين في النقاش من عرب الشمال العربي الافريقي، تم احتضان أفكارها الأولى في باريس إبان الإصرار الفرنسي غير السوي على استمرار بقاء نفوذهم في تلك البلدان. بعض تلك الأفكار فشلت في التجذر، كما فشل «الظهير البربري في المغرب»، وبعضها أصبحت له قواعد أخلت بالتعايش أو كادت في المجتمعات الأم كالجزائر التي تعايشت لزمن طويل بين فئاتها، دون أن يكون العرق مفرقاً لها حين جمعها الولاء للوطن والدين.

كلامٌ كثيرٌ قيل حول الهجرة والأقليات في تلك الندوة، تبين منه أن الغرب، وخصوصاً أوروبا، تتوجس خيفة من خمسمئة مليون عربي مسلم في جنوبها المباشر، وهو العدد المتوقع للعرب المسلمين خلال فترة لا تتعدى الأربعة عقود المقبلة، أو يتدفق اليوم عليها آلاف من المهاجرين. فما بالك بعد أن تكتظ أرضنا بالبشر!

أما المحور الثالث الحاكم في النقاش فقد كان الاقتصاد، الذي يشكو من عدم توازنه، فالشرق العربي المسلم، ينزف الخيرات الناضبة بأسعار زهيدة الثمن لتغذية الصناعة الغربية كما هو النفط، واحتكار علمي مضاد من الجانب الآخر يضيق على الشعوب العربية والمسلمة الاستفادة من خيرات التقدم العلمي في تطوير اقتصادها كصناعة وأدوية وتقنية حديثة، كما يشكو الغرب من احتكار نفطي مبالغ في أسعاره!

تلك هي المحاور الرئيسية الثلاث الحاكمة في العلاقة بين العرب والمسلمين وبين الغرب، نوقشت من ممثلين غير رسميين بصراحة وجرأة، كان يحدوهم جميعاً أمل الاتفاق والوصول الى شراكة، بدلاً من صراعٍ عبثي، ولكنها الخطوة الأولى في طريق طويل

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 767 - الإثنين 11 أكتوبر 2004م الموافق 26 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً