في العام 1979، نظم مأتم العجم الكبير احتفالاً كبيراً في ذكرى النصف من شعبان، وأغلق الشارع الرئيسي عن المرور بسبب حضور عدد كبير من الجمهور الذي افترش الشوارع والطرقات. وكان من بين المتحدثين الشيخ علي العصفور والشيخ محمد علي العكري. وكانت المرحلة تشهد بدايات حركة سياسية إسلامية الطابع تأثراً بالثورة الإسلامية في إيران. وفي وسط الاحتفال تم قطع التيار الكهربائي عن المنطقة المحيطة بالمأتم، ما أثار سخطاً واسعاً بين الجمهور، الذي فسّره تفسيراً سياسياً عدائياً فأخذ يردد الشعارات الغاضبة. منظمو الحفل تداركوا الوضع فأخذوا يهرولون إلى مآتم أخرى قريبة، واستعاروا ميكروفوناتها وأجهزتها الصوتية، واستمر الحفل... ولكن بعد أن ارتفع ضغط وحنق الجمهور على «قاطعي الكهرباء»!
قبل ست ليالٍ، اتصل أحد الزملاء في صحيفة محلية بعدد من الصحافيين وكتّاب الأعمدة يسألهم عن رأيهم في إغلاق نادي العروبة وحلّ مركز البحرين لحقوق الإنسان، وكان يقدّم لهم خمسة خيارات: موافق جداً، موافق، موافق بتحفظ، غير موافق... إلخ. وعندما جاءتني مكالمته لم أمهله لإكمال خياراته الخمسة، إذ بادرت إلى مقاطعته بالقول: غير موافق جملة وتفصيلاً، فهذا الخيار خيار سيئ جداً، وهذه السياسة ليست سياسة حكيمة. فليس من المعقول أنه كلما حدث خطأٌ أو اختلافٌ في شيء بادرت الحكومة أو مؤسساتها إلى إغلاق المراكز أو التهديد بإغلاق الجمعيات. فنحن نعيش زمن الانفتاح، وإذا حدث أي خطأ من أي شخص فليحاسب الشخص نفسه، ضمن حدود القانون، بعيداً عن التحشيد والتصعيد وافتعال الأزمات الضخمة من دون داعٍ، بما يعود بالسوء على سمعة البلد في الخارج. فكم من المكالمات تلقّيناها من الخارج يسألوننا عمّا حدث في البحرين بعد أن صوّر إعلامنا الذكي الأمر وكأنه انقلاب عسكري.
انه ليس من الصحيح أن نغلق نادياً بسبب عقد ندوة حضرها مئة أو حتى ألف شخص، فنفتح المجال أمام الفضائيات للتشهير بالبحرين على انتهاكاتها لحقوق الانسان وغلقها للمؤسسات المدنية. كذلك ليس من الصحيح أن نغلق مركزاً مثل مركز حقوق الإنسان، وهو هيئة معتبرة تمارس دورها الحقوقي في خدمة البلد تحت سقف المشروع الاصلاحي بسبب تصريح فردي، أو «خطأ» شخصي. فـ «الجريمة» كما نعلم «شخصية» ولا تتعدى إلى غير مرتكبها، والخطأ يحاسب عليه صاحبه ولا يتعداه إلى سواه، إلا إذا كنا مازلنا نعيش في زمن «أمن الدولة» ونحنّ للعودة إليه. وهو ما لا يصرح أحدٌ به، ولكنا إذا استمر هذا التوجه فإننا نهيئ الأرض للعودة غير الحميدة لتلك الأيام الكئيبة، التي كانت تنتهك فيها حقوق المواطن ولا يجد ناصراً ولا منصفاً في بلاده، لا من قضاء ولا غير القضاء. حتى السجين السياسي الذي كان يتظلم ويطالب بتطبيق قوانين السجن ولوائحه الداخلية يقول له ضابط السجن بالحرف الواحد: «القانون نحن الذين وضعناه ونحن الذين سندوسه بأقدامنا»! هل يريد البعض العودة بالبحرين إلى هذا الوضع؟
الأخوات الثلاث!
على ان كلامنا لا نطلقه جزافاً، وانما نحن نرصد الأداء الحكومي على مستوى الوزارات الثلاث: العمل والداخلية والإعلام، في تعاطيها مع الأنشطة الشعبية وفعاليات الجمعيات السياسية. وليس من المعقول استمرار التعامل مع هذه الجمعيات وكأنها عفاريت قادمة من الخارج ومدعومة برأس مالٍ أجنبي، فهي جمعيات «وطنية» نابعة من تراب هذا الوطن، أعضاؤها وقياداتها وقواعدها من أبناء هذا الوطن، لها أهداف اجتماعية وسياسية لا تخفيها ولا تخجل من الدعوة إليها، ولابد من إفساح المجال لها للعمل بحرية ومسئولية، وليس من الحكمة في شيء التضييق عليها حتى تشعر بالاختناق.
نقول ذلك ونحن نتابع ما قامت به وزارة العمل والشئون الاجتماعية من «حركات» لا تنم عن سياسة متزنة، ومن شأن استمرارها أن تشيع الإحباط وتستفز النفوس وتدفع إلى الاحتقان في الشارع. والأمثلة على ذلك كثيرة، من سياسة التضييق على الندوات إلى العريضة الشعبية انتهاءً بندوة الفقر في نادي العروبة. وما يدعو للرثاء هي لغة التهديد بإغلاق الجمعيات السياسية في حال لم تطع «أوامر» الوزارة. هذا والناس تتساءل عما ستؤدي إليه هذه السياسة غير الحكيمة، وإلى أين تريد أن تدفع بالأمور؟ ومن المستفيد من هذا التصعيد؟ وهل المقصود دفع البلد إلى طريق مسدود؟
قبل 26 عاماً و13 يوماً، في عز سطوة «أمن الدولة» كانت «الأيدي الخفية» تقطع الكهرباء عن مأتمٍ لتنظيمه حفلاً في منتصف شعبان ليخرس الناس، واليوم تتعاون «الوزارات الثلاث» في زمن الديمقراطية التي يريدونها صامتة، على حلّ مركزٍ يحمل اسم البحرين لحقوق الانسان، وإغلاق نادٍ يحمل اسم العروبة. فهل يبلغ البنيان يوماً تمامه في دولة المؤسسات... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 767 - الإثنين 11 أكتوبر 2004م الموافق 26 شعبان 1425هـ