اختار اللقاء السنوي الرابع عشر لمشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية موضوع الاستبداد والتغلب في نظم الحكم العربية. وكالعادة عقد الاجتماع في نهاية أغسطس/آب في كلية سانت كاترين بجامعة أكسفورد حيث الجو الأكاديمي لأكسفورد يضفي رصانة على الموضوعات والمناقشات. وقدمت للقاء 14 ورقة قرأت منها ست، وجرت مناقشتها في أربع جلسات ماراثونية إذ تناولت كل جلسة أوراقاً تدور حول المحاور الآتية:
المحور الأول: الجذور الدينية للاستبداد إذ قدم بحث علي الدباغ، وهناك اوراق مرتبطة بالموضوع لم تقرأ مثل جذور الاستبداد في الحياة العربية المعاصرة لهلال الخليفي، والجذور التاريخية للاستبداد لعبد الجليل كاظم الوالي.
المحور الثاني: تجارب عربية في الاستبداد إذ قدمت ورقة الاستبداد الحداثي العربي التجربة التونسية لرفيق عبدالسلام، وورقة بومدين بوزيد، قراءة التجربة الديمقراطية المتعثرة في الجزائر، وورقة سالم النجفي، الاستبداد في نظام الحكم العراقي والتي لم تقرأ.
المحور الثالث: آليات الاستبداد واستدامته، إذ قدمت ورقة حيدر إبراهيم، تجدد الاستبداد، وورقة ثناء فؤاد، آليات الاستبداد وإعادة إنتاجه في الوطن العربي، وكذلك ورقة أسعد عبدالرحمن الاستبداد أساس الفساد واللتان لم تقرأ.
المحور الرابع: مقاومة الاستبداد، إذ قدمت ورقة توفيق السيف والاستبداد والسبل الممكنة لمواجهته.
وتلى تقديم كل ورقة تعقيب من قبل أحد الاختصاصيين، ونقاش من قبل الحاضرين، ونظراً لترابط الموضوعات والقضايا فان النقاش لم ينحصر في ورقة بذاتها إذ أكثر الأوراق لم تقرأ وإنما الموضوع ذاته وما يرتبط به.
جذور الاستبداد في ثقافتنا
استمر الجدل سواء تجاه ما جاء في الأوراق أو إثناء المناقشة عما إذا كانت الثقافة العربية والإسلامية تحمل في أحشائها قيم الاستبداد أم العكس. والحقيقة انه باستثناء حقبة الرسول (ص) والخلفاء الاربعة (رض) فان الحكم الإسلامي كولاية أو خلافة أو حكومة، في خلافة إسلامية قارية أو أمارة صغيرة قد تميزت بالاستبداد، والذي تمدد في المجتمع بدءاً بالعائلة وانتهاء بولي أمر المسلمين.
أما محور الخلاف الثاني فهو عما إذا كان الدين الإسلامي ذاته يحمل في طياته توجيها بالاستبداد وحكم الغلبة، فمن المؤكد أن الإسلام هو دين السماحة والشورى، لكن إسلام الفطرة قد تفرع الى مذاهب وطوائف ليست كلها لأسباب عقائدية وإنما لأسباب سياسية رافقتها حروب وفتن، ما جعل غالبية هذه المذاهب أو الفرقة أو الطائفة في مواجهة المذهب أو الفرقة أو الطائفة الأخرى. وهذا ينطبق على السنة والشيعة والخوارج والاباضية والزيدية وغيرهم. والمسلمون اليوم على رغم المعرفة والانفتاح على بعضهم بعضاً فإنهم مسكونون بعقائد أجدادهم وقيمهم، ولم يتخلصوا تماماً من نزعات الاستبداد والغلبة والتعصب. إذاً فهناك حاجة لثورة في الفكر الإسلامي تستوحي تسامح وشورى الإسلام الأول وأصحاب الدعوة الأول، مع الاستفادة من إنجازات البشرية والاديان الأخرى في نزوعها لخلاص الانسان وحريته.
الاستبداد في «الجملكات» العربية
ورثت الدولة العربية الوطنية المعاصرة، تقاليد وقيم الحكم العربي الإسلامي بمختلف تجلياته كما ورثت تقاليد الدولة العثمانية الاستبدادية في عدد من البلدان، فيما تأثر بعضها بدرجات متفاوتة بحكم الاستعمار البريطاني أو الفرنسي، باستثناء ما يعرف حالياً بالمملكة العربية السعودية والتي لم تعرف استعماراً أو حكماً تركياً، وتشكّلت من امارات قبلية (باستثناء الحجاز). وطبعاً فهناك تباينات في الخلفية التاريخية والبنية المؤسسية والمجتمعية لكل منها، فمصر تختلف عن المغرب باستثناء لبنان إذ ضعف الدولة أتاح هامشاً من الحريات لمختلف الطوائف، فان الدولة العربية الوطنية المعاصرة استبدادية بدرجات متفاوتة بغض النظر عن نظام الحكم، ملكي أو جمهوري وراثي أم انتخابي، فحتى الجمهوريات أضحى الحكم فيها يورث وتوصف بـ «الجملكة». وبغض النظر عن اقتصادها ريعي، أم ليبرالي أو رأسمالية دولة «اشتراكي اسما» فبسيرورة الاستبداد يمكن أن تتخذ مسيرة بناء الدولة العلمانية والتحديث كما في تونس والجزائر، يمكن ان تتخذ مسيرة بناء الدولة طابع العقيدة الإسلامية كما في المغرب والسعودية والسودان، أو حكم العائلة أو الفرد أو المجموعة مع مسحة دينية كما في دول الخليج والأردن وموريتانيا.
وتوافقت الآراء على أن المطلوب في هذا العصر إقامة الدولة التي تعكس ارادة الشعب وطموحاته ومصالحه، أي تلك القائمة بمقاصد الشريعة وليس حدودها. كما انه ليس من المفيد استحضار نماذج حكم في الأزمنة القديمة، بل يجب مواكبة العصر وإقامة الحكم الديمقراطي المعبر عن إرادة الشعب. كما ان المطلوب أيضاً إنهاء المواجهة بين العلمانيين والإسلاميين، فالغلواء في العلمانية أو التأسلم لا يخدم لا العلمانية ولا الإسلام.
استدامة الاستبداد وحكم التغلب
طرحت في هذا المحور عدة أفكار من وحي تجارب أنظمة ودول عربية مختلفة. ولا شك في أن استدامة الاستبداد وحكم التغلب يستند إلى خليط من العوامل. ومن بين أهم هذه العوامل تكريس ثقافة الاستسلام والخنوع، مع إكبار نزعة الاستبداد لمن يتولى الأمر، رب أسرة أو حاكماً، وتمجيد قوة الولي وتبرير خضوع الرعية. ويلعب الاقتصاد الريعي دوراً مهماً في تكريس تبعية الشعب واعتماده على الدولة في حياته. وليس الاقتصاد الريعي مقتصراً على دول النفط، فهو يشمل كل ما يستحصل عليه من دون عمل، إذ إن الدولة حتى في أفقر بلداننا هي أكبر رعوي، وأكبر مشغل والمتحكمة في الاقتصاد والمعيشة.
عامل آخر هو هيمنة الدولة على الإعلام المكرّس لاستدامة حكم الاستبداد والغلبة بتصوير الحاكم بأنه ظل الله على الأرض وهو المنقذ والحامي وأب الأمة والذي من دونه يصبح الشعب يتيماً، والذي لا ينقذه من يتمه إلا خليفته.
وهناك عامل آخر وهو شراء النخب الثقافية والسياسية واستزلامها، كذلك إقامة جهاز بوليسي متغلغل في جميع مناحي الحياة مخترق لمنظمات المجتمع وتشكيلاته، وجعل فئات واسعة (الجيش والأمن والبيروقراطية) معتمدة على الدولة وموالية لها.
إن قدرة أنظمة الاستبداد العربية على التأقلم لا يستهان بها، فهي قادرة على التكيف من حكم فردي أو عائلي مطلق، الى حكم الحزب الواحد، إلى حكم الجبهة الوطنية، وتعدّد الأحزاب. لكن ما تدعيه من نظام ديمقراطي أو تعدّدي ما هو إلاّ شكلي ومسموح، لا يؤدي البتة إلى تداول السلطة والتوزيع العادل للثروة.
وهنا جرى نقاش عن مشروعات الإصلاح المطروحة سواء محلياً أو دولياً، وهناك من قال ان لا مشروعات إصلاح وطنية، وإنما ترقيعات هنا وهناك. كما تم التأكيد على عدم رفض أفكار الإصلاح الخارجية، فهي عملية تفاعل طبيعية مع رفض الاملاءات والتدخلات الاميركية والأوروبية والاسرائيلية.
مقاومة الاستبداد
قدمت ورقة توفيق السيف صورة سلبية لمقاومة الاستبداد في الجزيرة العربية، ولكن المناقشات التي تبعتها اتخذت منحى أكثر موضوعية. وفي الواقع فان الأنظمة العربية جميعها في مأزق ولم تعد تمتلك الشرعية التاريخية ولا الدستورية ولا الإنجاز ولا التحرير ولا صيانة التراب أو السيادة الوطنية. وهذه الأنظمة مضطرة حالياً إلى استخدام الوسائل الفجّة كتزوير الانتخابات والتلاعب بالدساتير والقوانين وتمزيق الشعب إلى طوائف ومذاهب وأعراق، وبالطبع القمع والتجويع، والخضوع للإمبراطورية الاميركية، والانخراط في العولمة المتوحشة واملاءاتها.
بالمقابل فإن هناك بوادر لوعي جمعي بضرورة النضال السلمي الدؤوب لتغيير هذا الواقع وإنجاز تحولات وان كانت بطيئة، لكنها في الأخير تؤدي الى تغير نوعي. واستشهد الحاضرون بما يجري في مصر تحت عنوان «كفاية»، إذ تحالفت مختلف أحزاب المعارضة في مطلب واحد وهو لا استمرار لحكم التجديد والتوريث والطوارئ. وفي المغرب هناك حركة المجتمع المدني من أجل ملكية دستورية، وفي السعودية هناك حركة إصلاحية طرية العود ولكنها واضحة المعالم، وفي البحرين حركة دستورية من أجل ملكية دستورية.
وهكذا هناك تجليات في أكثر من بلد عربي. وما لاحظه المتحاورون هو انبعاث قوى المجتمع المدني إلى جانب الأحزاب والنقابات في الحركة المطالبة بالإصلاح هذه
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 766 - الأحد 10 أكتوبر 2004م الموافق 25 شعبان 1425هـ