ربما العرب وحدهم أكثر الناس يحسنون صناعة التبريرات والذرائع، وأكثر الناس في بلدان العالم المترامية الأطراف يتداولون مصطلح «الوطنية» في مقابل «الخيانة»، وربما أكثر الناس أيضاً، لا يجيدون «فن الاختلاف» في الرأي؛ وعليه، تبقى المسائل موزعة بين «وطني وخائن»، وبات أكثرنا لا يميّز بين الخائن والوطني مع نشوب أول مطارحة فكرية خلافية، أو معركة كلامية صغيرة عن أساليب العمل وتكتيكاته وصولاً إلى الهدف المنشود، في حين يتعامل البشر خارج حدود الوطن العربي مع بعضهم بعضاً على أساس المواطنة بغض النظر عن ذروة الخلاف الذي يحدث بينهم، أياً كان هذا الخلاف وتحت أي مسمى.
ربما العرب وحدهم أيضاً، أكثر المخلوقات قاطبة يسمون الأشياء بغير مسمياتها؛ فالمشاحنات والمشاجرات يطلقون عليها تسميات مثل: «حواريات سياسية أو ثقافية»، وحين تمتد هذه المشاجرات الغوغائية إلى أعلى مداها تكون نتائجها واضحة على كل جبين مختلف، والاتهام جاهز في بوتقته من أحد الطرفين للآخر: «أنت خائن أو فاقد للوطنية» ويتراشق الطرفان باتهامات متبادلة؛ أحدهم وطني والآخر خائن والعكس بالعكس ضمن تصنيفية مقززة موروثة على ما يبدو من «أيام الاستعمار» وطرق محاربته، «بالسيف أو بالكلمة؛ بالوعي أو بالغوغائية، بالتشدد أو بأقل تشدد دون مهادنة»؛ أي ان هناك تبايناً في التعبير عن الرفض لوجود هذا المستعمر والأساليب المتبعة لإرغامه على الجلاء من البلاد.
غير أن خلافنا نحن العرب يتحول عن الوسائل، وليس الأهداف، (طرد المحتل أو المستعمر مثلاً) كهدف أساسي لغالبية الناس، إلى قضية كبرى «بفتح أقصى اليدين وأكثر» في حجم الوطنية والخيانة بجدل سياسي خالٍ من المحتوى، في حين أن خيانة الوطن بالمفهوم العام وفي إطارها السياسي والفكري تتجاوز إلى حد بعيد خلافاً عن الوسائل «النضالية أو الجهادية أو الكفاحية» السلمية أو العنيفة، كل بحسب مقاسه وقدرة عطائه كيف؟
في العراق المنكوب مثلاً، وصلت الأمور إلى ذروتها في التخوين، فلا أحد يعرف من هو الوطني ومن هو الخائن، وأصبح جل العراقيين متأرجحين بين ما هو وطنية وما هو خيانة، فمن يعمل على إنقاذ العراق مشكوك في وطنيته ومرمياً بالخيانة، ومن يمارس العبث «تلمع» الغوغاء وطنيته، وينسحب على ذلك خلط عجيب في الأوراق: إذاً، من هو الوطني ومن هو الخائن؟
أحد الكتاب والمحللين السياسيين في صحيفة «الاتحاد» الإماراتية تساءل مع المتسائلين قائلاً: «هذا السؤال، الذي لابد أن نخجل لأنه ما زال مثاراً في بلاد أمتنا، لا يمكن الإجابة عليه إلا بتفكيكه إلى سؤالين محددين، أولهما: هل الوطني هو الذي يعمل من أجل إخراج القوات الأجنبية من العراق، والخائن هو الذي يؤدي سلوكه إلى إدامة وجودها؟ وثانيهما: هل الوطني هو من يحافظ على وحدة العراق، والخائن هو من يعمل لتقسيمه أو يؤدي سلوكه إلى زيادة فرص التقسيم»؟.
يبدو السؤالان، للوهلة الأولى، من النوع الذي يحمل إجابته في طياته. فالإجابة التي لا تحتاج إلى أدنى تفكير هي بالإيجاب بالنسبة إلى كل منهما. غير أن المطلوب إجابة تتجاوز الإيجاب والسلب إلى توضيح كيف تكون الخيانة أو الوطنية في المواقف والأفعال وما يترتب عليها من نتائج محددة على الأرض سواء فيما يتعلق بالقوات الأجنبية أو ما يتصل بوحدة الوطن أو تقسيمه.
بالرجوع إلى الخلف قليلاً يوم ضاعت الحكمة من عقول سياسيي أمتنا العربية وعلى رأسهم القيادة العراقية المتمثلة في الديكتاتور صدام حسين وحاشيته؛ وقعت الحرب بنتائجها المعروفة مسبقاً، وصار الاحتلال، ثم قام مجلس الأمن في قراره 1483 «بشرعنة» الاحتلال بموافقة جماعية من الدول الـ 15 فيه، بما فيهم سورية العربية... أما مسألة القوات الأجنبية في العراق الآن، فالمسألة أكثر وضوحاً، إذ بات أن رحيل القوات الأجنبية يتوقف على تحقيق الأمن وبالتالي إجراء الانتخابات وتشكيل حكومة منتخبة تمتلك القدرة على حفظ الأمن العام وتستطيع، عندئذ، أن تطلب من هذه القوات مغادرة العراق وفق ما نص عليه قرار مجلس الأمن 1546. ويحسن أن نستذكر هذا النص بحرفيته في الفقرة الثانية عشرة: (يقرر المجلس استعراض ولاية القوة متعددة الجنسيات بناء على طلب حكومة العراق أو بعد مضي 12 شهراً من تاريخ اتخاذ هذا القرار، على أن تنتهي هذه الولاية لدى اكتمال العملية السياسية المبينة في هذا القرار، ويعلن أنه سينهي هذه الولاية قبل ذلك إذا طلبت حكومة العراق إنهاءها).
فالوطني الذي يسعى لإنهاء وجود القوات الأجنبية إذاً، هو الذي يعمل لتوفير أجواء الأمن والمناخ السياسي اللازم لتشكيل الحكومة المنتخبة في أسرع وقت ممكن، بحيث تطلب هذه الحكومة إلى مجلس الأمن إنهاء ولاية القوات التي ربط مشروعية وجودها بالامتثال الفوري لطلب العراقيين إجلاءها من بلدهم، أي هو ذلك الذي يعمل من أجل إنهاء الغوغائية والقتل بالهوية باستخدام العنف والخطف والنحر والسيارات المفخخة وقتل الأبرياء بالإرهاب «في أسرع وقت حتى يمكن إجراء الانتخابات في أول يناير المقبل، وفق الجدول الزمني الذي وضعه قرار مجلس الأمن نفسه وتؤكد عليه الحكومة المؤقتة باستمرار بين الحين والحين».
أما الخائن سواء كان عراقياً أو عربياً «يقاتل أميركا» على أرض الرافدين، هو ذاك الذي يصر على تصعيد العنف وشن الهجمات المسلحة بأبشع صورها، والتي أصبح جل ضحاياها من العراقيين (علماء وأساتذة جامعيين وسياسيين وأطفال ونساء وعمال وصحافيين وأجانب يعملون لبناء العراق)، إذ إن سلوكاً من هذا النوع بطبيعة الحال يحول دون توفر الأجواء التي تتيح للحكومة العراقية أن تطلب إنهاء وجود القوات المتعددة وعلى رأسها القوات الأميركية والبريطانية.
وبما أن الحديث يجري بشأن الوطني والخائن، ومن هو هذا ومن هو ذاك، فالوطني في تقدير العقلاء «أصحاب الحكمة المفقودة عربياً»، هو ذاك الذي «يبذل أقصى جهد لإنهاء الاختلالات الأمنية وتوفير مستلزمات إجراء الانتخابات والترشيح لها سعياً إلى الفوز فيها، ومن ثم المشاركة في تشكيل الحكومة التي يكون قرارها الأول هو التوجه إلى مجلس الأمن وتوجيه الشكر له وإبلاغه بأن الوضع لم يعد يستلزم أي وجودٍ أجنبي، وأنه آن الأوان لسحب القوة متعددة الجنسيات وبشكل فوري».
قد يقال إن الأمر ليس بهذه البساطة والتبسيط، إذ إن الولايات المتحدة لها مشروع في العراق والمنطقة، وإنها لن تغادر العراق من دون استكمال أهدافها في المنطقة، وأن لها مصالح تسعى لتأمينها، وإنها ستعرقل إصدار قرار من مجلس الأمن ينص على إنهاء القوات المتعددة الجنسيات وما إلى ذلك من «مماحكات» يردّدها البعض كما تردد الببغاوات الكلام، ونفهم من هذا الحديث أنه يستند إلى عدم الثقة بالسياسة الأميركية التي وقفت باستمرار مع الأنظمة الشمولية يوم كانت مصلحتها معهم، «على رغم أن الرئيس بوش الابن أعلن أن قوات بلاده ستغادر العراق بشكل فوري إذا طلبت الحكومة العراقية ذلك»، وسيقول للعراقيين: «نراكم على خير»؛ لكن ما نفهمه أيضاً ان العراق والعراقيين يخوضون عملية سياسية كبيرة لبناء عراق جديد، فالقوى المناهضة «للحكمة» عليها أن تنتظر قليلاً بشيء من الحكمة أيضاً وتدخل في العملية السياسية إلى نهايتها، وهي قريبة جداً لتظهر مدى تواجدها على الساحة السياسية العراقية وقتها في تحريك الشارع لصالحها من دون استخدام العنف «مؤقتاً أقلها» حتى إظهار كذب واشنطن من صدقها، ويوفر جهد مقاومته بعد استحقاق الانتخابات في يناير المقبل بعد أن يستتب الأمن في أرجاء العراق
العدد 765 - السبت 09 أكتوبر 2004م الموافق 24 شعبان 1425هـ