مازلت أدين لأستاذي الأول في الصحافة، اللبناني رشيد حسن بالفضل منذ سنوات عملي الأولى في الصحافة، عندما أعاد لي موضوعاً كتبته عن أداء الاقتصاد البحريني والتزمت فيه بالصيغة الرسمية التي ساقت كل مؤشرات النمو الى المقدمة وتجاهلت مؤشرات الانخفاض تماماً.
أعاده لي طالبا قلبه رأسا على عقب والبدء بالمؤشرات المهمة من دون الالتفات الى اتجاهاتها الى الأعلى أم الى الأسفل، وعندما أبديت تخوفي لأن الصيغة الرسمية قد يغضب تغييرها المسئولين، قال بحزم «أنت لا تعملين لدى المسئولين، أنت تعملين لدى القارئ الذي ينتظر منك غدا تحليلا لم يقدمه له المسئولون كما ينبغي».
ظل حسن يوجهني بلهجة لا تخلو من التعنيف، بسبب اعتمادي الأسلوب الرسمي في كتابة التقرير، الى الكيفية التي أتناول بها التقارير الرسمية، قرابة الساعة بالهاتف من مقر الصحيفة التي كنت أكتب لها في لندن وحذرني قائلاً: «التقارير الحكومية العربية تتعمد اظهار الجوانب الايجابية من أدائها فقط، لكن الصحافي ليس ببغاء ليكررها على القارئ في اليوم التالي». واعتمدت هذا الدرس منذ ذلك اليوم، وهو أمر أغضب الكثيرين الذين اعتادوا على أن الصحافي أجير لدى مؤسساتهم على رغم أن هناك رب عمل آخر يتكفل بدفع راتبه في نهاية الشهر، وآخر هؤلاء مسئول العلاقات العامة بجهاز التسجيل العقاري الذي يبعث في نهاية كل شهر أرقام التعاملات العقارية التي تنال نصيبها من التحليل والمقارنات قبل أن تظهر للقارئ في اليوم التالي، الا أن هذا المسئول يصر على الاتصال في اليوم التالي مبديا غضبه من أية تحليلات أضيفت الى الأرقام الصماء التي إن أعطيت من دون مقارنات فلا توفر أية معلومة لمستثمر متابع لأداء القطاع العقاري خلال شهر أو عام أو عشر سنين. هذا الشهر غضب المسئول عندما دلت الأرقام التي بعثها على أن نمو التعاملات العقارية خلال الشهور التسعة من العام الجاري بلغ 18 في المئة، وأضفنا لها من ارشيفنا أن هذا القطاع المهم والحيوي في الاقتصاد نما فعلا هذا العام، ولكن بمعدل تنازلي، اذ كانت نسبة النمو للفترة نفسها من العام الماضي 31 في المئة مقارنة بالعام السابق. وبرر غضبه بأن الإضافة أعطت مؤشراً يؤثر سلباً على القطاع في حين أن الأرقام التي زودنا بها جهاز المساحة والتسجيل العقاري تحدثت عن نمو فقط! الغريب في الأمر أن هذا المسئول يقحم اسم رئيسه الأكبر بين الجملة والثانية، مؤكداً أن تحليل الأرقام لا يرضيه، وأنه يجب أن تلتزم الصحيفة بنشر ما يردها من أرقام وتعليقات على أنه قرآنا لا يمس، لا يختصر ولا يضاف له تعليق أو تحليل من عقاريين أو مهتمين أو اقتصاديين، على رغم أن الصحيفة التقت رئيسه أكثر من مرة في لقاءات مطولة رحب فيها بالاجابة على الأسئلة المطروحة بكل شفافية.
من الواضح أن المسئول ليس لديه تعريف محدد لاختصاصاته كمسئول للعلاقات العامة والمتمثلة في بناء علاقات جيدة وتوفير المعلومات من ادارته للعالم الخارجي ذي العلاقة من اعلاميين وباحثين ومستثمرين، بل تجاوزها الى التدخل وفرض كيفية التعامل مع هذه المعلومات، كما أن الصيغة التي يطلبها لا يمكنه أن يراها الا في نشرات مؤسسته الخاصة أو ربما في مساحات اعلانية مدفوعة الثمن في الصحف.
وهذه الادارة ليست الوحيدة التي تطلب مثل هذا من الصحف التي يفترض أن تكون مستقلة، فهناك طلبات كثيرة مشابهة للاهتمام بموضوعات وأحيانا بصور لأشخاص، وعلى رغم الاستغراب الذي تجلبه مثل هذه الطلبات فإن التمادي فيها يلقي اللوم بشكل أساسي على الصحف التي تتجاوب بطاعة عمياء وتلتزم التزاما «حنبلياً» بما يملى عليها، حتى أصبحت الصحف، التي تلتزم برسالتها أولا، تبدو في مظهر المشاكسة والسائرة عكس التيار «المتفاءل دائما»
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 765 - السبت 09 أكتوبر 2004م الموافق 24 شعبان 1425هـ