من هو الاصلاحي الحقيقي لدينا اليوم في البحرين؟ ثلاث سنوات مرت الآن منذ انطلاق المشروع الاصلاحي ولم نرَ سوى «الكثير من الألسن التي تتحدث والقليل جدا من الآذان التي تصغي» والنتيجة اليوم اننا بتنا نخشى على المشروع نفسه.
كان من المفهوم ان تكون الأيام الأولى لانطلاق الاصلاحات حافلة بكل شيء، مرارات الماضي تظهر جنباً إلى جنب مع جرعات التفاؤل العالية التي عبرت عنها غالبية الناس حيال المستقبل. وكان يتعين النظر لذلك بشيء من الترفق والتفهم لأن التخلص من ميراث الماضي ومراراته يستلزم قبل كل شيء الحديث عنها والاعتراف بأن هناك مرارات أياً كانت. لكن في مفصل الخلاف الأول الذي طرأ بشأن الدستور، لمسنا شيئاً من النضج الذي نسعى إليه في موقف المعارضة العملي من الانتخابات.
فعلى رغم موقفها المقاطع للانتخابات ودعوتها للناس للمقاطعة، أعلنت المعارضة على لسان الشيخ علي سلمان انها لن تعيق بأي شكل عملية التصويت بل على العكس دعت أنصارها لالتزام الهدوء يوم الانتخابات فسارت الانتخابات على أفضل ما يكون وبهدوء وتحضر.
لم يقتصر الامر على الانتخابات بل ان إجماعاً كان قد ساد على معالجة كل الملفات الاخرى بالروح نفسها التي تم التعامل بها مع الانتخابات. ضحايا التعذيب، التجنيس، البطالة كلها ملفات تم التعامل معها بالأسلوب الهادئ والرصين نفسه. لكن ما كان يخشاه الكثيرون بشأن سلوك المعارضة جاء من مكان آخر تماماً.
كل الحوادث المؤسفة من صدامات بين متظاهرين ورجال الشرطة مثلاً، جاءت في مناسبات مختلفة وبشأن ملفات غير هذه. قتل محمد جمعة الشاخوري في تظاهرة احتجاج على الاجتياح الاسرائيلي للضفة الغربية العام 2002 أمام السفارة الأميركية وترافق معها تحطيم واجهات مطعم مكدونالدز القريب من السفارة. لكن لنلحظ أن تظاهرة أخرى جرت في شارع البديع ومرت قرب فرع للمطعم نفسه لكنها سارت بهدوء. صدامات أخرى جرت العام الماضي احتجاجاً على حفل للمطربة نانسي عجرم. وقبل ذلك كانت هناك صدامات أخرى أحرقت خلالها سيارة للشرطة تلت تظاهرات احتجاج ضد الحرب على العراق في فبراير/ شباط من العام الماضي.
وفي مارس/ اذار من هذا العام، شن ملثمون هجوماً على مطعم في شارع البديع وهو هجوم لم تدع إليه ولم تتبنه أية جهة معروفة أو أية جمعية معارضة ولم نسمع سوى بضعة أصوات تقدم نوعاً من التبرير بهجومها على الفساد. لكن أحداً لم يتساءل: من الذي يقف وراء ذلك الهجوم ومن دعا إليه ومن نظمه ولماذا كانوا ملثمين طالما ان الناس تخلوا عن وضع الأقنعة منذ ثلاثة أعوام في التظاهرات؟.
أترون الفارق الآن؟ القضايا والملفات الرئيسية التي تتمسك بها المعارضة ليست هي التي تفجر هذه الصدامات وهذه نقطة جديرة بالتوقف. ففي الوقت الذي تتمسك فيه المعارضة بأسلوبها الهادئ والعقلاني لمعالجة كل الملفات، فإن مظاهر الانزلاق تأتي دوماً بطريقة يشوبها الافتعال وبشأن قضايا جانبية وتتفجر بطريقة غامضة. والنتيجة الوحيدة التي قادت إليها كل تلك الحوادث هي أن «الأمن معدوم».
نتيجة مثل هذه تضع العقلاء في الجمعيات السياسية وفي المجتمع كله دوماً في محنة لأن هذه الحوادث لا تفعل شيئاً سوى أن تزايد على عقلانيتهم وتضعها دوماً موضع الاختبار والشك أمام جمهور استنفذت المعاناة الطويلة صبره فبات أكثر ميلاً للتعاطي مع الحركات الخلابة القصيرة النفس عوضاً عن العمل الدؤوب والمثابر والنفس الطويل.
بالنهاية، أياً كان الذي يجري في الشارع، عقلانياً أم غوغائياً، متزناً أم فيه قدر من الافتعال، فإن محنة العقلاء تمتد إلى ما هو أبعد. فأمام الناس هم المسئولون بشكل أو بآخر لأن الكثيرين لا يملكون سعة من الوقت للتمييز والتفكير، وبالنسبة إلى الحكومة فإن كل ما يجري من الطينة نفسها شبيه بعضه ببعض، والملفات الرئيسية التي يتم التعامل معها بعقلانية يثار بشأنها غبار كثيف وتتراجع في الأهمية لحساب قضايا ثانوية أخرى وعرضية أحياناً. وإذا ما تضافر هذا مع أداء الحكومة في البرلمان والميل المتزايد للانتقاص من الحريات مثلما تعبر عنه قوانين مثل قانون الصحافة وأخيراً قانون الجمعيات السياسية، فإن هذا كله يدفعنا لأن نعود من جديد إلى الدائرة التي سعينا طيلة عقود للتخلص منها: اليأس
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 764 - الجمعة 08 أكتوبر 2004م الموافق 23 شعبان 1425هـ