في العراق المحتل يقاتل آلاف الجنود المرتزقة المستوردين من دول شتى. هؤلاء أكثرهم ضباط وجنود متقاعدون، لديهم خبرات واسعة جداً في أعمال القتل والتدمير، يدفع لهم الاميركيون الرواتب للقيام بالمهمات «القذرة». إذا قُتل هؤلاء لا أحد يندبهم، أو يبكي عليهم، فلا أسر وراءهم ولا بلداناً محترمة تطالب برفاتهم. حياتهم تنتهي بعد الموت مباشرة، جيفاً منتنة في العراء، لا أحسب حتى الأميركيين يهتمون بحفر قبور للملمة أشلائهم المتناثرة، بينما يأخذون جنديهم القتيل بالطائرة، إذ يستقبل استقبالاً «رسمياً» تصدح فيه الموسيقى العسكرية احتفاءً بعودة الجندي إلى وطنه حتى لو كان محمولاً على الأعناق. هذا الجندي يضاف إلى رقم القتلى «المحترمين»، أما ذاك المرتزق، فهو أرخص من أن يضاف إلى القائمة!
أمثال هؤلاء الجنود المرتزقة كانوا يقاتلون في حرب الجزائر، وفي حرب اسبانيا، وفي فيتنام ودول أميركا اللاتينية وفي أعماق أفريقيا، وفي أماكن أخرى تعرفونها. ما جاء بهم من بلدانهم إلا المال... ومع الأيام يصبحون عبئاً على اقتصاد تلك الدول وعلى شعوبها وعلى استقرارها وأمنها أيضاً. ولأنهم يعيشون بنفسية «إما قاتلاً أو مقتولاً»، لذلك تراهم يمعنون في القتل والذبح والتنكيل.
على أن هناك نوعاً آخر من المرتزقة، تأتي بهم بعض البلدان من أجل حرب أخرى، ساحتها الإعلام، وبضاعتهم الكلمة الرخيصة الكاسدة، لو عاشوا في بلدانهم لما باعوا «سطورهم المصفوفة» بعشرين فلساً! لكنهم يجدون من يشتري ترهاتهم في البلاد البائسة التي تفتقر إلى مثل هذه الخدمات التي يقدمها باعة الكلام الرخيص.
على رأس مؤهلات هذا النوع من المرتزقة الاستعداد لقول ما لم يقله الله في أنبيائه ورسله. وجوههم لا تنقصها الصفاقة من الدرجة الممتازة. لا يأنف أحدهم من التصريح أمام الملأ بأنه انما جاء ليجمع أكبر «تحويشة» من الفلوس ليعود إلى بلاده ليفتتح مشروعاً تجارياً يؤمّن به مستقبله! فهو يدرك في قرارة نفسه أنه لا مستقبل له حتى في ميدان الصحافة الرديئة، لان هذه السوق تستقطب «المنافسين» من بلدان شتى، لابد ستطرده يوماً من السوق كالجمل الأجرب.
أحد هذه الفصيلة خاطب الخليفة الفاطمي في القاهرة قبل قرون وهو منبطح على بطنه واللعاب يسيل من بين شفتيه:
ما شئت لا ماشاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
ذلك الخليفة لم يبق ولم يبق ملكه، فهو من التراب كان وإلى التراب عاد بعد سنين، أما «الشويعر العاق» الذي ظلّ منبطحاً على بطنه في مجلس الخليفة مدة ساعتين بعد إلقاء القصيدة بانتظار «درّة الدراهم»، فتقول بعض الروايات انه عاد إلى بلاده وافتتح مشروعاً تجارياً عاش بقية حياته يقتات عليه، إلى أن وافاه الأجل وقد أصيب بمرض جلدي في دبره! ولم يبق من ذكراه غير ذاك البيت الشعري الوضيع تقرأه الأجيال فتبصق على أصحاب الوجوه الصفيقة
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 763 - الخميس 07 أكتوبر 2004م الموافق 22 شعبان 1425هـ