العدد 763 - الخميس 07 أكتوبر 2004م الموافق 22 شعبان 1425هـ

الفقه... فلسفة المسلمين

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في كتب المستشرقين هناك حديث دائم عن وجود أزمة فكر في الفلسفة الإسلامية. فهذه الكتب تذكر دائماً تلك الغربة التي يواجهها الفيلسوف المسلم في بحثه عن المعرفة. فالمعرفة كما تقول كتب الاستشراق ناقصة عند المسلمين لأنها تصل إلى مسألة محددة وتتوقف عندها ولا تستطيع الوصول إليها أو تجاوزها أو مناقشتها. وهذه المسألة شكلت ثغرة في الفلسفة الإسلامية تحولت إلى نوع من المأساة التي تؤزم عمل الفيلسوف وتعطل عليه استكمال مشروعه فيضطر إلى التوفيق بين الشريعة والحكمة حتى لا يتهم بالكفر والزندقة. اللجوء إلى التوفيق تعتبره أيديولوجيا الاستشراق مشكلة وليس وسيلة أو فلسفة متكاملة لا تخشى تناول كل الأعراض والعلل. هذا أولاً.

ثانياً، تعتبر كتب الاستشراق أن مشكلة الفيلسوف المسلم تقبع أساساً في مسألة البحث عن علة الموجودات (التكاثر) خارج الواحد. فالواحد كان يقف دائماً عقبة في وجه تطوير الفلسفة الإسلامية واطلاقها من ضوابط الدين.

ثالثاً، تعتبر كتب الاستشراق أن الفلسفة الإسلامية فلسفة مأزومة لأنها كانت تصطدم دائماً بسؤال «إذا كان مصدر الكون والموجودات هو الواحد الذي لم يلد ولم يولد ولا شبيه له فمن أين جاءت الكثرة وما هي أسبابها ودوافعها وبالتالي ما هي علة العلل في ظهور الأشياء؟».

هذه الملاحظات وضعها المستشرقون على منظومة الفلسفة الإسلامية للقول أخيراً إن الفلاسفة في الإسلام هم مجرد نقلة ترجموا النصوص من لغات السريان واليونان وفارس والهند إلى العربية وأضافوا عليها بعض الآراء الإنشائية أو نسجوا على منوالها. فالفلسفة الإسلامية برأي المستشرقين مستوردة وليست أصيلة ولا تتمتع باستقلالية عن منظومة أفكار ما كتبه غيرهم. فالفيلسوف المسلم أخذ الكثير وأضاف القليل باستثناء بعض المجتهدين والمؤرخين من أمثال الغزالي (أبوحامد) وابن خلدون في مقدمته.

كيف أسس المستشرقون فكرتهم هذه وعلى ماذا استندوا لإثبات قولهم؟ بدأت الفكرة تتبلور حين نجح الاستشراق في عزل الفقهاء عن الفكر الفلسفي فاعتبروا أن فلسفة الفقهاء دينية، ثم انتقلوا إلى وضع حلقات من المفكرين اشتغلوا على حقول الفلسفة واعتبروا أن هؤلاء هم الفلاسفة وبالتالي فإن هؤلاء فشلوا في إضافة الجديد على القديم بل اكتفوا بالتوفيق بين العقل والنقل أو بين الدين والفلسفة (الشريعة والحكمة).

مبدأ الفصل بين الفقه والفلسفة كان مبتدأ العزل بين سلسلة من الفقهاء وضرب الخاصية التي تميز الفلسفة الإسلامية. مثلاً، اعتبر المستشرقون أن السلف لم يتعرض للتأويل وأخذ بالحديث وأهمل الرأي والقياس وهذا ما أدى إلى قطع الطريق على احتمال تطوير فلسفة مستقلة للمسلمين. وبعد أن يبطل المستشرقون دور أصحاب مدرسة الحديث مثل مالك بن أنس ومقاتل بن سليمان وأحمد بن حنبل وسفيان الثوري وداوود بن علي الاصفهاني ينتقلون إلى إبطال دور أصحاب مدرسة الرأي والتأويل والقياس انطلاقاً من قاعدة أن هؤلاء من المجتهدين ولا يمكن اعتبارهم من الفلاسفة.

وبرأي المستشرقين فإن رجال مدرسة الرأي وما تفرع عنها من مدارس شتى في علم الكلام مثل الأشعري والماتريدي وابن فورك والباقلاني والاسفراييني والجويني والشاطبي لا يمكن وضعهم أو تصنيفهم في خانة الفلسفة أو الفلاسفة.

بعد هذه التقريرات يلجأ المستشرقون إلى تصنيفاتهم التي اعتمدت تعريفات محددة للفلسفة، لوضع لائحة خاصة بهم ترى أن أتباعها أو رجالها هم من يحق أن يطلق عليهم فلاسفة ومن هؤلاء الكندي والرازي (الملحد) والفارابي وابن سينا وابن باجه وابن طفيل وابن رشد، يضاف إليهم أحياناً الغزالي وابن عربي وابن خلدون.

ووفق هذه اللائحة يأخذ المستشرقون بقراءة الفلسفة الإسلامية وينتهون في الأخير إلى القول إن هؤلاء باستثناء الغزالي وابن عربي وابن خلدون وبعضهم يدخل ابن تيميه وضعوا تنويعات على فلسفات مترجمة أو منقولة. وفي النهاية يستخرج المستشرقون فكرة واحدة يتداولونها وهي أن الإسلام احتضن الفلسفة ولكنه فشل في انتاج فلسفته الخاصة والمستقلة.

انطلاقاً من هذه القاعدة العامة في تصنيف الفلسفة والفلاسفة وضع المستشرقون قوالب جامدة لقراءة الفكر الإسلامي. ومن هذه القوالب انطلقوا ليستنتجوا مجموعة أحكام نهائية تلغي جوهر الفلسفة الإسلامية (الخاصة والمستقلة) وهي الفقه.

هذا الجانب التأريخي من موضوعات الاستشراق أطل منه المستشرقون للبحث في الجانب النظري والاستنتاج بأن الفلسفة الإسلامية مأزومة لأنها تجنبت البحث في العلة وأسبابها (علة العلل) وفي «الواحد» و«الجزء». وهذا أيضاً يجافي الحقيقة. فالمسلمون من فلاسفة وفقهاء تطرقوا إلى مختلف الموضوعات وصولاً إلى تصنيف العلل وتحديد صفات الواحد والغوص في الجزء وصولاً إلى الجزء الذي لا يتجزأ.

على صعيد العلة وأنواعها ميّزت الفلسفة الإسلامية (الفقهاء) بين العلة وطبقاتها. فحددوا 32 علة وتطرقوا إلى 14 نوعاً من طبقات العلة. فعلى مستوى العلة ذكروا الابداع، والإدراك، وأزلية، وأولى، وثانية، وبالقوة، وتامة، وتمامية، وجملة، والشيء، وصورية، وصورية مشتركة، وطبيعية، والعدم، وعقلية، وعنصرية (جنسية)، وغائية، وفاعلة، وبعيدة، وقديمة، ومادية، ومادية مشتركة، والماهية، ومحركة، ومعدّة، وموجدة للشيء، وناقصة، وهيولانية، وواحدة، والوجود، وعلة المعلول. بعد تحديد الأنواع انتقلوا إلى طبقات العلل وهي: الأجناس المختلفة، وأربعة، وجواهر، وطبيعية، وغائية، وغير متناهية، وفاعلية، وقابلية، وقريبة، ومتفقة، والمقولات، والموجودات، وطبقة علة الهويات.

وخلال البحث عن العلة تحدث المسلمون (الفلاسفة الفقهاء) عن الواحد. فالواحد يقال على كل متصل وهو لا ينقسم فهو ليس عدداً فهو مبدأ العدد لا انه عدد. أي انه «ركن العدد». ولذلك لا يصير كثيراً كما لا يصير الكثير واحداً. فالواحد هو اسم مشترك يدل على معانٍ كثيرة باستثناء «الواحد الحق» الذي هو أفاد سائر الموجودات. لذلك أكد الفلاسفة الفقهاء أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وهو لا ينقسم لا بالقوة ولا بالفعل. ولذلك ميز الفلاسفة بين الواحد والواحد الأول. فالواحد الأول صدر عنه كل الموجودات المتغايرة. وعلى هذا صنف الفلاسفة الواحد إلى أنواع: فهناك واحد بالاتصال، وواحد بالجنس، وواحد بالحقيقة. ومن أصناف الواحد تكاثر الكون فهناك واحد بالذات وواحد بسيط، وبالصورة، وبطريق التناسب، وبالعدد، وبالعرض، وبالكل، وبالمجاز، وبالمساواة، وبالمعنى الكلي، وبالنسبة، وبالنوع، وبالتام، والحق، والعام، وفي كل جنس، وفي كل مادة. وهناك واحد كلي، وعام، ومبدأ العدد، ومطلق، وكثرة. وفكرة الواحد بالكثرة انطلق منها الفارابي في فلسفته ليقول بالفيض. فالواحد فاض عن نفسه فجاءت الكثرة (الموجودات) من فيضه. فأطلق على هذه الفكرة «الفلسفة الفيضية». وتحدث المسلمون أيضاً عن الجزء واختلفوا عليه. فبعضهم قسمه إلى أقدار متساوية والبعض إلى أقدار غير متساوية. وصنفوا الجزء على أنواع فهناك جزء عرضي، وجزء العلة، وجزء لا يتجزأ.

كل هذه الأمثلة تدل على مسألة واضحة وهي أن الفلاسفة (الفقهاء) تطرقوا إلى كل حقول المعرفة بما فيها تلك التي تتناول المحذورات والممنوعات التي تمس الذات الإلهية كأصل العلة، ومعنى الواحد، ومدلولات الجزء. إلا أن ما يميز الفلسفة الإسلامية (الفقهاء) عن غيرها انها في النهاية رفضت ابطال الواحد وأكدت العلة الأولى التي هي علة العلل. فاثبات الواحد لا يلغي الفلسفة لأن الفلسفة ليس من شروطها الإلحاد وابطال الواحد ونفي اثباته وليس من أسسها إلغاء علة علل الموجودات. فكل الفلاسفة في أوروبا باستثناء تيار الملحدين اشتغلوا على الموضوعات نفسها واختلفوا على الحقول التي اختلف عليها المسلمون قبل ألف سنة وأكثر. فلماذا تعتبر تلك فلسفة خاصة ومستقلة وهي فلسفة مسيحية أو إيمانية بينما يعزل الفقهاء من مدرسة الفلسفة بذريعة أن من اشتغل على حقل الدين ليس فيلسوفاً ومن اشتغل ضد الدين هو الفيلسوف. انها مفارقة. ولكن المفارقة ليست جديدة فهي الآن تستخدم كوسيلة من وسائل الهجوم على الإسلام بصفته ساحة للنقل لا للعقل

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 763 - الخميس 07 أكتوبر 2004م الموافق 22 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً