لم تكن السيدة (ن) على علم أنها ستكتشف «لعبة المصالح» وقوة «كبار المعلنين» وخفايا «قرار النشر» من عدمه، وموضوع «استقلالية» الصحف، إلى آخره من قصص تخرق الضمير المهني وأخلاقيات المهنة، لولا تعرضها لمشكلة تمس الكرامة الإنسانية مع شركة كبيرة تحاول بإلحاح عرضها موثقة عبر صحافيين وصحف محلية، لم يتسنّ لها ذلك لو لم تدخل ميدانياً «دهاليز» قرار النشر وتفهمت قدرة الصحافيين على الكتابة وعجزهم عن النشر، فيما «تذمرت» بطريقة «متفهمة» تفاوت الإجابات عن إمكان نشر قصتها مع هذه الشركة العملاقة من عدمه.
حاولت من جانبي، توضيح ما تيسر لي من «دراية» عن تأثر قرار النشر بقوة كبار المعلنين، بضرب أمثلة عدة، وكيف أن المؤسسات الصحافية توازن بين مصلحتها في النشر للقصص والأخبار السيئة عن الشركات والمصارف والمؤسسات الكبيرة من عدمه على خلفية إعلانية، وكيف أن الصحف المحترمة عادة ما توفق بين «رسالتها» وتجارتها التي تهدف إلى الربح لاستمرار أداء دورها ورسالتها في المجتمع بعيداً عن «المثالية». وفي الوقت نفسه لا ينبغي أن تتخفى الصحف وراء إمبراطورية تجارية فقط، ويكون همها الوحيد الربح ضمن هذه العملية المعقدة واعتبارها من ورأس أولويتها، فمن الصعوبة بمكان أن تبلغ الصحف حد المثالية، إذ تضحي بالإعلانات، وهي المصدر القوي الذي يعاضد المبيعات لتغطية وتعويض كلفة الطباعة والورق ورواتب العاملين، لكنه من غير اللائق، ومن غير الأخلاقي قيام الصحافة بتغطية خبر «مقبوض الثمن» لاحقاً يشمّ منه رائحة كريهة قد تمرر إعلانات يستفيد منها الصحافي المتنفذ أو صاحب قرار النشر من دون مراعاة لقيمة الخبر وتأثيره على القارئ، أو عدم التدقيق بعين فاحصة لمراميه إن كانت تؤثر على النزاهة.
في ورشة العمل عن «تغطية الانتخابات البرلمانية الديمقراطية» التي أقيمت في البحرين في الفترة ما بين 24 و26 سبتمبر/ أيلول تطرق الكاتب الصحافي والباحث الحقوقي الأردني يحيى شقير في جانب من مداخلاته عن المصالح الخاصة ودقة النزاهة عند الصحافيين وأخلاقيات المهنة؛ واستحضر مثالاً من فرنسا قائلاً: «تقضي التقاليد هناك بإعطاء أوقات ومساحات متساوية لجميع مرشحي الرئاسة، في برامج التلفزيون وعلى أعمدة الصحف، بل أن هذه اللعبة تبلغ أحياناً حداً من الدقة في التطبيق، بحيث أن المذيع أثناء استضافته لعدة مرشحين مرة واحدة، يمسك بيده ساعة توقيت رياضية، ويحسب الوقت الذي يتحدث فيه كل مرشح، بحيث لا يأخذ أي منهم فترة أكثر من غيره».
هذه ثقافتهم الإعلامية التي «يخشى البعض تغلغلها لتخريب عقولنا»، أما ما هو موجود عندنا، فحدّث ولا حرج، وأقصى ما وصلنا إليه من ابتكارات «ديمقراطية ورفع سقوف الحريات العامة، ومن بينها حرية التعبير والتفاضل» أن نستفتي الشعب على رئيس «مرشح» واحد ونضع صورتين لفخامته ونقول للناس: «اختر أحدهما لتظهر النتائج فوزاً كاسحاً بنسبة 100 في المئة أو أقل بقليل 99,99 في المئة!»، وتلعلع تلفزيوناتنا صباح مساء بإنجازاته العظيمة والدعاء من الله أن يمدّ في عمره، فيما تتفنن الصحافة في إطلاق الألقاب التي تصل ذروتها إلى التأليه، أو بدرجة أقل تنعته بـ «ظل الله على الأرض»، وما إلى ذلك من ترانيم تصمّ الآذان وتفرقعها غيظاً وكمداً.
إذا كان كل ذلك ما يميز العرب في صحافتهم وإعلامهم، فكيف نطلب من أصحاب الصحف التوفيق بين «الربح التجاري وأداء رسالة المجتمع»، ثم نتمادى في طلباتنا «البطرانة» بحسب التعبير العراقي، الالتزام بأخلاقيات المهنة، والتضحية بالإعلان من أجل خبر يسيء لشركة أو مصرف تربطه مع المؤسسة الإعلامية، أو تسعى المؤسسة للتعاقد معه على إعلانات ترويجية؟
العدد 762 - الأربعاء 06 أكتوبر 2004م الموافق 21 شعبان 1425هـ