نحن في البحرين ندفع ثمن الجغرافيا والتاريخ على الدوام. سكان الجزر هكذا هم دائماً. وأهل البحرين لا يختلفون في هذه السنّةِ الطبيعية عن بقية سكان الجزر الموزعة وسط البحار والخلجان.
بلد صغير، كان منشأ حضارات قديمة، وأصبح ملتقى حضارات أخرى. كنا منشأ حضارات يوم كان المحيط متصحراً، فقيراً، متخلفاً. وطوال قرون عاشت البحرين تخرّج للمنطقة عبر القرون تلك العقول والكفاءات، فكانت تلك الأسماء البارزة في الفقه والتفسير والأدب والشعر والفلك والتأليفات المنوعة.
في العصر الحديث نذكر بفخر أننا أول بلد خليجي شهد نهضة تعليمية كبيرة، لم تكن من فراغ وانما كان البلد قبلها مليئاً بالمدراس الدينية التي قد تجدون أطلالها هنا وهناك، آخرها في مقبرة مقابة التي حاولت الأوقاف الجعفرية (حفظها الله ورعاها) شق الشارع على أشلائها.
المحيط تقدّم، انتعش مالياً واقتصادياً، وكذلك عمرانياً. أما نحن فان البلد الذي كان يصدّر المعلمين والعلماء ورجال الدين إلى الخارج، بات يستورد كل شيء. هذه الظاهرة تتجلى في الاعتماد شبه الكلي على الخارج. وأخطر انواع الاعتماد هو الاعتماد على الخارج في استيراد الأفكار. الأفكار إذا لم تنبت من هذه التربة فسنظل أسرى تتقاذفنا النظريات الجديدة والقديمة، يميناً ويساراً. وهذه الظاهرة نلاحظها جلية في الحراك الشعبي العام. ففي فترة الرواج القومي أصبحنا قوميين، وفي فترة «الترويج» البعثي لم يعدم من هللوا وصفقوا لصدام حسين، ومازالوا حتى يوم الناس هذا. وفي فترة الصحوة تحوّلت الموجة، بمختلف تقلباتها وتلاوينها.
الشعب الذي لا ينتج ثقافته يعيش بطبيعة الحال متطفلاً على ثقافات غيره. قد تقولون إنها ظاهرة عامة في الوطن العربي كله، صحيح، فنحن متطفلون على الحضارة الغربية من الابرة إلى الصاروخ، هذا على النطاق المادي، أما على مستوى الافكار فالوضع أخطر، فأنت لا تفكّر وانما «تستضيف» من يفكّر بالنيابة عنك!
نضال خمسين سنة
في وضعنا البحريني هناك تدافعٌ اجتماعي، وهناك صراع قيم ومصالح، وتنافر أهداف وتضارب في الرؤى. هناك حكمٌ، وهناك قوى سياسية تطمح للعب دور في تحديد مستقبل البلد، وهناك رغبة شعبية في المشاركة في صوغ القرار وتحديد المصير، بحيث لا يكون قرار المستقبل بيد فئة إن لم نقل أفراد. فالسفينة يركبها الجميع، فإذا غرقت سيغرق الجميع، وكفاها ما لاقت في الماضي وتريد أن ترشّد مسيرتها للمستقبل وتتجاوز أخطاء الماضي.
كثيرون يقولون ومن حقهم أن يقولوا: «نحن دفعنا الثمن غالياً، ولا نريد أن يدفع أبناؤنا ما دفعناه». فوطأة الأمس كانت شديدة، خمسون سنة والشعب يلهث لانتزاع حقوقه المشروعة، حتى بلغنا مرحلة الاعتراف الرسمي الشجاع بوجود حقوق ومظالم وعشوائية في التخطيط... وضرورة الإصلاح.
نحن لا نريد أن نكرّر المآسي مرة أخرى، خصوصاً أن الكارثة المقبلة ستقع على رؤوس الجميع كما تتنبأ دراسة «ماكينزي» المخيفة، ولن تكون هناك مصالح محفوظة لطرف على حساب طرف آخر، فالكلّ في الغرق سواء. لن تنجو طائفةٌ وتهلك أخرى، فالمركب سيهوي إلى القاع.
اليوم مسألة تكوين الاحزاب أمرٌ لابد منه، فالأحزاب إنما هي قوى حيّة تعبر عن المجتمع وتطلعاته، وليس من الحكمة في شيء المماطلة في الاعتراف بهذا الحق الشرعي للشعب، أم أن علينا إضاعة خمسين عاماً أخرى حتى نعترف للشعب بهذا الحق؟
نقول «حقٌ»، ولا نريد الاستقواء علينا بنظريات مستوردة من دول أخرى مهما كنا نحترم تجاربها، إذ ليس من الصواب استنبات تجارب الآخرين، لأن الأفكار لا تعيش إلا في بيئتها الأصلية، ولا يقوى أو يتحمس لتطبيقها إلا من انتجها. أما «تحريم» الأحزاب فهذه ليست فتوى يتعبد بها المؤمنون في البحرين، وليسوا ملزمين بها، كما أنها وجهة نظر لن نتردد في تخطئتها مادامت تضرّ بمصالح ومستقبل هذا الشعب، وتنم عن جهلٍ بتاريخه النضالي الطويل، فضلاً عن تجاهلها لواقع الحياة الدنيا.
كل حزب أو تنظيم سياسي، أو «جمعية»، لها رواد وأنصار، ولها مصالح تدافع عنها، ولها أهداف تصبو للوصول إليها، الاسلاميون يرجعون إلى قواعدهم، أو مراجعهم أو رموزهم، أو لا يرجعون. غير الاسلاميين لهم مراجعهم أيضاً، أما النظرات «الحديّة» فهي التي تنسف التعددية من الأساس. فالواقع الذي يعيشه الناس غير ما تطرحه النظريات، فكيف إذا كانت مستوردة من وراء البحار؟ رحم الله من وفّر علي نفسه الإفتاء في غير زمانه...
وإذا كنت لا تسطيع دفع منيتي... فدعني أدافعها بما ملكت يدي
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 761 - الثلثاء 05 أكتوبر 2004م الموافق 20 شعبان 1425هـ