أجريت اتصالات عدة بأساتذة في جامعة البحرين طالباً رأيهم في أزمة التسجيل، التي تفجرت مطلع العام الجامعي الجاري، بعد اعتذار نحو 40 أستاذا كانت إدارة الجامعة اتفقت معهم للتدريس في كليتي الآداب وإدارة الأعمال، حسبما نقلت الصحف.
وعلى رغم انهم سيتضررون حتما من هذه الأزمة، كما سيتضرر طلبتهم ونشاطهم الأكاديمي، فقد كان لافتا أن الكثير ممن اتصلت بهم لا يرغبون في الحديث علنا. وقال أكثر من أستاذ إنهم يخافون (استخدموا هذه الكلمة) الحديث مع الصحافة في شئون كهذه، ذلك أن إدارة الجامعة تلوح بتشكيل لجان التحقيق مع الأساتذة بسبب أو آخر. ويقال إن حال الخوف وصلت إلى مجلس الجامعة، ففي العام الماضي وافق مجلس الجامعة على إلغاء مقرر الاقتصاد اليتيم من الخطط الأكاديمية لكلية الحقوق من دون أن يبدي بعض الأعضاء رأياً مخالفاً. علما بأن التبرير الأساسي لقيام الجامعة بطرح برامج البكالوريوس في الحقوق هو حاجة المملكة لقانونيين متخصصين في المجالات التجارية والمالية والاقتصادية، ولهذا كانت بداية هذا البرنامج في كلية إدارة الأعمال قبل تأسيس كلية الحقوق. ويذكر هنا أن برامج كليات الحقوق التقليدية عادة ما تحتوي على أربع مقررات اقتصاد، فما بالك بتلك التي تخرّج متخصصين في المجالات المالية والمصرفية، وجاء قرار إلغاء مقرر الاقتصاد بعد أن ألغى مجلس الجامعة أيضاً مقرر الرياضيات اليتيم.
إن مسألة الحرية الأكاديمية تستحق وقفة مطولة. ذلك أنها من أهم ملامح المناخ الجامعي، ولا يمكن تصور أن لا تنعكس الإصلاحات السياسية الجارية في البلد على الأجواء في الجامعة، التي يفترض أن تكون معقل التحرر وطليعته.
وربما يفسر واقع الحريات المكبوت داخل الجامعة، بعض ما جرى مطلع سبتمبر/ أيلول الماضي، حين أتضح فجأة أن إدارة الجامعة عجزت عن التعاقد مع محاضرين يسدون النقص في أساتذتها، ولم تتم مناقشة هذه المسألة قبل ذلك أبدا، كما لم تتم مناقشتها لاحقا على النحو المعتاد، كما يحدث مع أية مؤسسة بحرينية أخرى (ليس كلها)، بغض النظر هنا عما إذا كانت الجهات الرسمية تسمع ما يوجه لها من نقد أم لا. (ولا أريد أن أذكر عدد المرات التي اتصلت «الوسط» بإدارة الجامعة لطلب إيضاحات، لكن من دون جدوى). أي أن الجامعة لا تؤمن حتى بمفهوم «قل ما تريد ونحن نعمل ما نريد»، وإنما تعمل وفق مقولة: «اخرس، وسنعمل ما نريد»، ولا يصح أن تستمر مثل هذه المقولة أبدا في ظل المشروع الإصلاحي.
وبسبب ذلك، إضافة إلى أسباب أخرى، لا يمكن استبعاد أن يجيئ يوم ينهار فيه «السيستم» في الجامعة، لتقع إدارتها في مأزق شبيه بالمأزق الذي وقعت فيه وزارة الكهرباء والماء، حين انقطع التيار الكهربائي عن البحرين كليا في 23 أغسطس/ آب الماضي. ذلك أن كل الإشارات كانت تنبئ بوضعية حرجة للكهرباء، بعد الانقطاعات المتتالية مطلع الصيف، بيد أن وزارة الكهرباء استمرت تعاند وتؤكد سلامة أجهزتها، وكامل استعدادها لمواجهة الاحتياجات، إلى حين وقعت الواقعة. وها هي جامعة البحرين تدعي سلامة الأوضاع، وأن ما حدث ليس نتاج سوء تخطيط... وهذا ينبئ بالكارثة التي نأمل أن لا تأتي.
في تقدير كثيرين، إن أزمة التسجيل دليل إضافي على ضعف الإدارة، وعدم القدرة على التخطيط. فهل الجامعة غير قادرة على تحديد احتياجاتها؟ مع ملاحظة أن الحديث هنا عن الاحتياجات البشرية لسد الشواغر، وليس عن الرؤى الأوسع، والصورة التي يأمل أن تكون عليها الجامعة، ودورها المجتمعي، فهذا يبدو حديثا ليس ذا معنى في ظل إدارة لا تحسن أن تتفق مع عدد من الأساتذة لسد النقص العددي، وليس النوعي.
في هذا الوقت، تتحدث الجامعة عن خطة خمسية تجدد سنوياً آخذة في الاعتبار المستجدات. لكنها كأية خطة يضعها أي نظام عربي مترهل، مجرد كلام على الورق.
في الجامعات القائمة على المؤسسية، يتفق قبل نحو عام تقريباً مع الأساتذة الذين سيلتحقون بها، لا قبل بضعة أشهر. وفي موضوع كالذي نناقشه، فإن السوق واضحة المعالم، إذ معروف سلفاً عدد الطلبة الذين سيتم قبولهم، ومعروف سلفا عدد الذين سيتخرجون، وبالتالي يفترض أن يكون العدد المطلوب من الأساتذة معروفاً. لكن حتى هذا المعروف لم تكن الإدارة قادرة على التعاطي معه. ومعلوم هنا أن توافر المعلومات يحتاج إلى جهاز لصوغها برنامجاً، وإلا فإن هذه المعلومات لا قيمة لها.
أحد الأسباب في ذلك، يعود إلى تعامل الجامعة مع الأساتذة. فهي تتعامل كما تتعامل الدولة مع المحافظات. إذ تقول الحكومة أن هناك خمس محافظات، نساويهم في عدد الشرطة المجتمعية الذين يخدمونها، بغض النظر عن عدد الناس في كل محافظة. هكذا تقول الجامعة لأساتذتها: بغض النظر عن التخصص، كلكم تأخذون راتباً واحداً، فيساوى في ذلك صاحب التخصص المتوافر في السوق بكثرة، والأستاذ ذو التخصص النادر. وإذا علمنا بأن بعض التخصصات في حقول معينة غير متوافرة في السوق، فلنا أن نتصور السبب الذي يجعل الأساتذة غير البحرينيين، وكذلك البحرينيين، لا يرغبون في الاشتغال في جامعة تدفع رواتب، قد تكون جيدة، لكنها لا يمكن أن تكون مقنعة لأستاذ يمكن أن يحصل على ضعف هذا الراتب.
قد لا يكون الخلل في ضعف الموازنة بالضرورة، ويمكن إيجاد حلول لمشكلات الضغوط على الموازنة، عبر مراعاة العرض والطلب في الأساتذة. لذلك، ربما من المناسب أن تفكر الجامعة في إلغاء مبدأ المساواة في الراتب بين أساتذتها، ذلك أن المساواة قد لا تكون عادلة أحيانا.
إلى ذلك، يقول البعض أنه يمكن إرجاع سبب أزمة التسجيل الأخيرة، جزئيا، إلى قرار مجلس الجامعة بإعفاء الطلبة المقبولين الحاصلين على 90 في المئة أو أكثر في الثانوية من برنامج التمهيدي في اللغة الانجليزية، بهدف تخفيض الكلفة ومن دون الأخذ في الاعتبار ضعف اللغة الانجليزية المستخدمة في التدريس في غالبية كليات الجامعة، وقد تم ذلك من دون أن تقوم الكليات المعنية بالاستعداد لقبول الطلبة الذين عادة ما يلتحقون بالبرنامج التمهيدي في مقرراتها. ولم يغفل هذا القرار التبعات الإدارية فحسب، وإنما اغفل أيضاً الاعتبارات الأكاديمية ما يمكن أن يترك أثراً سلبياً على التحصيل الأكاديمي للطلبة في كليات الهندسة وإدارة الأعمال والعلوم وتكنولوجيا المعلومات.
وبالمناسبة فقد تكون المسألة المتعلقة بتسجيل المواد التي انفجرت مطلع العام، حلت بزيادة كثافة الفصول في جميع المقررات الدراسية تقريباً، بما في ذلك المقررات التي تفرض طبيعتها عدداً قليلاً من الطلبة، وهذا يؤثر سلباً على المستوى.
من جانب آخر، فإن التوظيف، بحسب مصادر عليمة، لا يراعي الاحتياجات أحيانا، إذ لا يوجد في تخصصي الإدارة المالية والتسويق أي مساعد بحث وتدريس بحريني، نتيجة عدم إعطاء هذا القسم فرص التوظيف المطلوبة، في حين ان تخصصات أخرى، لا تجد أية مشكلة في توظيف العدد الذي تريده، ومن بينها كلية الحقوق، الحديثة النشأة.
وتتفاقم هذه المشكلة في كلية إدارة الأعمال، التي تبدو إدارتها عاجزة عن إبقاء البحرينيين في العمل، بسبب حصولهم على عروض من خارجها، وبالتالي أصبحت قدرة الجامعة على المحافظة على من تقوم بتدريبهم محدودة في التخصصات النادرة.
وفي العام الدراسي الماضي، لم يوظف في كلية إدارة الأعمال سوى بحرينيين اثنين في قسم المحاسبة، ومعلوم أن هذه الكلية تضم أكبر عدد من الطلبة، ونسبة الأساتذة إلى الطلبة هي الأدنى، وكثافة الفصول الدراسية كبيرة نسبياً، من السنة الأولى إلى الرابعة.
في بعدٍ آخر تعيشه الجامعة، يمكن الحديث عن الخلل الواضح في التأهيل إلى سوق العمل. وإحدى المشكلات التي برزت على السطح خلال السنوات القليلة الماضية، تتعلق بدراسة الخدمة الاجتماعية، والجغرافيا، وكذلك تخصص الحقوق التي ينتظر خريجيها مستقبلاً غير واعد على صعيد التوظيف، كما حدث مع خريجات اللغة العربية.
في هذا الإطار، تتحدث الجامعة عن تطوير برامجها الأكاديمية لتتواءم مع سوق العمل، وتعكس المستجدات في التخصصات المختلفة. بيد أن هذا الكلام يبدو بلا معنى في أكثر من تخصص. وجزء من المشكلة يعود إلى ما يمكن تسميته بـ «الزهو الأكاديمي»، المتعلق برغبة الأكاديميين بالارتباط بقسم أو أقسام تعرض برامج تؤدي إلى حصول الطالب على درجة علمية، لا تقل عن البكالوريوس، فالأستاذ القائم على هذا النوع من البرامج يعطى قيمة أكبر من الأستاذ المرتبط بأقسام لا تعطي شهادات علمية.
وفي جانب مختلف، فإن موازنة الجامعة غير معلنة ولا حساباتها الختامية، بل أن موازنة الأقسام الأكاديمية وهي النواة الأولى للجامعة لا يعرف عنها مجلس القسم أي شيء، دع عنك قيامه بمناقشتها والاطلاع على أدائها، وبالتأكيد فإن نشر الموازنة وعرضها سيكون في صالح الجامعة، لتقنع المجتمع بكفاءة استخدام الأموال، وأن تقول إنه لا تتوافر موارد كافية لتغطية احتياجات الجامعة، إلا إذا كانت الموازنة كافية، وبالمناسبة لا أتذكر أن الجامعة تحدثت مرة عن إشكال يواجه موازنتها، مع أن رئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث محمد الغتم، شكى من ضعف موازنة «المركز»، ويتوقع أن تشكو الجامعة من ضعف موازنتها، مادام الغتم هو من وضعه «سيستمها» الذي يعاني خللا بيّناً.
وغنيٌ عن القول هنا، بأن الأعداد المتزايدة من الطلبة يؤدي إلى مزيد من الضغط على موارد الجامعة، ما يصعب عليها الوفاء بالتزاماتها، وكان كثيرون قد دعوا الجامعة إلى عدم التوسع في قبول الطلبة من دون خطط واضحة، لكن هذه الدعوات لم تلق آذاناً صاغية. وهذا أحد أسباب أزمة التسجيل الأخيرة، خصوصا في كلية إدارة الأعمال، كما ذكر، إذ لا يتناسب عدد المقبولين فيها والاستعدادات من حيث الهيئة الأكاديمية والتجهيزات.
وهذا ما يجعل بعض الأساتذة في هذه الكلية يدرسون ستة مقررات أو سبعة، في حين يفترض في أن يدرس كل أستاذ أربعة مقررات، ما يحوّلهم إلى موظفين تقليديين. ولنا أن نتصور وضع مدرس يدرس أكثر من ثلاثين ساعة في الأسبوع، فإذا افترضنا أنه يحضّر ساعتين لكل ساعة تدريس، فإنه يحتاج إلى تسعين ساعة عمل، دع عنك ساعات الامتحانات والتصحيح. فهل سيقوم بعد ذلك بأية أبحاث علمية؟ وهل سيؤدي دوره المجتمعي؟
إلى ذلك، فإن الأعداد المتزايدة من الطلبة تسببت في مشكلات أخرى، خصوصا عند قبول طلبة قد لا يتمتعون بالاستعداد الأكاديمي للحصول على الدرجة العلمية. إذ ينعكس ذلك سلباً على مستوى الخريج بشكل عام. فما يحدث أن بعض الأساتذة يراعون الطلبة ذوي المستويات الدنيا، خصوصا مع وجود تقييم الطلبة للأساتذة الذين يحاول كثير منهم إرضاء الطالب، ومراعاة رغباته، كون الترقية والزيادة السنوية (للأجانب) مرتبطة برضى الطلبة، لذلك يعتبر البعض آلية التقييم <>رشوة متبادلة>>.
وهذا لا يعني أن التقييم خاطئ في المبدأ، بقدر ما يحتاج التطبيق إلى نوع من الموضوعية، لضمان عدم تأثر المستوى الأكاديمي سلباً. إذ أظهر استبيان أجرته مجموعة من الأساتذة أن 75 في المئة من الطلبة يقيمون الأستاذ على درجاته، وبالتالي، ربما يكون المطلوب تغيير الجامعة لمفهوم وهدف التقييم والآلية المتبعة. مع الإشارة هنا إلى أن التقييم قد يستخدم من طرف الجامعة كسيف مسلط على الأساتذة، ما زاد من مستوى عدم ثقة الأساتذة في عملية التقييم.
في بعد آخر ومكرور، فإن عداء الجامعة واضح للنشاط الطلابي المستقل، والبعيد عن الرقابة. فالجامعة ليست فصولاً دراسية فحسب، إذ يفترض أن تلعب الدور الريادي في المجتمع، فيما اللوائح المنظمة لعمل الطلاب تضعه في قفص. ويقول البعض إن الجامعة تدار بعقلية «أمن الدولة»، فهي لا تود أن تكون هناك تأثيرات سياسية على الطلبة، وتقول إن عقول الطلبة يتم غسلها من قبل الجمعيات السياسية ذات الأجندات المشكوك فيها. وعلى الأرجح ترى الجامعة الطالب قاصرا، وأنها أعرف بمصلحته أكثر منه، وهذا خطاب ماضوي، للتعامل مع طلبة سيقودون مؤسسات المستقبل.
ترى، هل سبب كل ذلك يعود إلى تحول الجامعة إلى ما يشبه الإدارة الحكومية، منذ خط رئيسها الأسبق محمد الغتم تقاليداً لا يمكن كسرها بسهولة. فمنذ توليه الرئاسة، لم يلتزم، في الصورة العامة، باللوائح والأعراف الأكاديمية في التعيينات في المناصب الأكاديمية، بدعوى اختيار الأفضل، ما أدى إلى تحويلها إلى مناصب إدارية، مع أن الرتب الأكاديمية تعتمد في الأساس على الانتاج العلمي والتدريس وخدمة الجامعة والمجتمع، وبالتالي فإن نيل الرتب الأكاديمية العليا، يفترض أنه يعني أن من نالها عنصر جيد.
إن عدم الالتزام بهذه الأعراف في اختيار رؤساء الأقسام ومديري البرامج والعمداء ونواب الرئيس والمستشارين هو جوهر القضية، بحسب رأي كثيرين، إذ يفترض أن تكون الرتب الأكاديمية مقدسة ولا يجوز تخطيها في الجامعات، شأنها شأن الرتب في الكليات العسكرية. وبتخطيها تكون المؤسسية عنوانا فقط، ما يحول كثيراً من الأساتذة إلى منتفعين، وربما منافقين، لأنهم يرون أن الوصول إلى الموقع الإداري - الذي يؤمن لهم راتباً لا يحصل عليه الكثير من الأساتذة ذوي الرتب الأكاديمية الأعلى (وهو نظام غريب لا يوجد له مثيل في أي جامعة في العالم)- أصبح لا يعتمد على كفاءته العلمية، وإنما على مدى قربه من مزاج المسئول. وفي المحصلة يغيب الدور الأساسي للجامعة، وتصل إلى موقع المسئولية جماعة غير مؤهلة. وتتحول مجالس الأقسام والكليات والجامعة إلى ديكورات لأن القرارات في النهاية ليست بيد أي من المجالس، وإنما بيد رئيسه، وقد أضعف ذلك الجامعة فعلاً.
أخيرا، السؤال الذي يطرح نفسه، هل ينظر إلى الجامعة كجزء من متطلبات تكوين الدولة؟ فكما من الضرورة أن تكون هناك وزارة للخارجية والداخلية، يجب أن تكون في البلد جامعة، من دون أن يعني ذلك إيماناً بأهمية وجود جامعة مستقلة تلعب دورا محوريا في تحديث المجتمع وتقدمه.
لا أعرف الجواب الشافي، لكن ما أعرفه أن أحوال الجامعة تسوء، وقد وصفها أحد الأساتذة «مدرسة كبيرة»، وربما لو سألنا أساتذتها إن كانوا يفضلون الحاق أبناءهم بها، لكان الجواب «لا»
العدد 760 - الإثنين 04 أكتوبر 2004م الموافق 19 شعبان 1425هـ