أليس ملفتاً للنظر أنه في الوقت الذي تطالب فيه العواصم الغربية بكل قوة تحسين الأداء الحكومي في الدول المشرقية، خصوصاً الشرق الأوسط، بإطلاق آليات الديمقراطية وتحقيق حقوق الإنسان، والشفافية، يضحك القدر فتصدر دول المشرق إلى الغرب أكثر العوامل قدرة على تفكيك الديمقراطية، وتعطيل آلياتها ودفعها إلى منعطف يقود إلى التقليل من حقوق الإنسان وتخفيض نسبة الشفافية؟
للنظر من البسيط والعادي إلى المعقّد والعميق، فالبسيط هو أن تتبنى دولة مثل فرنسا، صاحبة شعارات حقوق الإنسان الحديثة، وبلاد النور، خطوات ترجع هذه البلاد من (بلاد الحريات) إلى بلاد تقليص الحريات، والمثال هو ما فرضته قانوناً من منع ارتداء الحجاب في مدارسها العامة التي أثارت ضجة لم تسكت بعد.
هذه الدولة التي فاخرت كثيراً بحماية رغبة مواطنيها باتباع ما يحلو لهم من ملبس ومسكن ومأكل ورأي، تتراجع لتفرض زياً معيناً وتحرّم زياً آخر، وهو من صلب حقوق المواطن!
أما الأكثر تعقيداً، فهو ما حدث في اسبانيا، إذ دفعت التفجيرات في مدريد الناخب الاسباني إلى أن يلتجئ الى الحزب المعارض ويصوّت له على غير ما كان متوقعاً قبل التفجيرات، إذ كانت الكفة ترجح فوز الحزب الحاكم وقتها. لقد غيرت التفجيرات ذات المنشأ الشرقي مسيرة ديمقراطية ناشئة في دولة غربية، الى عكسها تماماً، وتراجعت القضايا الحياتية للشعب الاسباني لصالح قضايا خارجية!
أما رئيس الوزراء البريطاني العمالي طوني بلير، الذي فاز حزبه في معركتين انتخابيتين على التوالي بغالبية مريحة، فهو يصارع في بلده، نتيجة ما يحدث في العراق، مثلما يصارع مواطنه المختطف في بغداد، الأول على حياته السياسية، والثاني على حياته الحقيقية.
أينما يذهب رئيس الوزراء يجد أمامه صورة ذاك المواطن الذي تفنن خاطفوه في بسطه إعلامياً في المناسبات الحرجة في وجه رئيس الوزراء، فهو إن ذهب إلى مؤتمر نقابات العمال كانت صورة البريطاني المختطف أمامه، وإن لجأ الى مؤتمر حزبه يحثه على إكمال المسيرة، خرج بعض من أعضاء حزبه بصورة الرجل المختطف كدليل ثابتٍ على فشل السياسة البريطانية. كما انه إن ذهب الى برنامج تلفزيوني كما حدث في برنامج ديفيد فروست الذي يشاهده الملايين، كانت صورة المختطف البريطاني تتبعه كظله، وهو في ملابسه البرتقالية التي تشبه ملابس معتقلي غوانتنامو في طرف الجزيرة البعيدة (كوبا).
هذا الأمر يرى بعض المراقبين انه يفقد الحزب البريطاني الحاكم (العمال) ورئيسه طوني بلير الكثير من الأصوات في الديمقراطية البريطانية الشهيرة، الى درجة أن بعض أعضاء الحزب لا يستبعدون تغيير الرئيس قبل الانتخابات المقبلة لإنقاذ سمعة حزبهم، ما اضطر رئيس الوزراء الى الاعتذار علناً لناقديه، بأنه قدم معلومات خاطئة، وهو اعتراف في الديمقراطية الغربية يعني أكثر من الكلمات المرسلة العامة، انه يعني بالتحديد فقد الصدقية، التي هي جزء ملازم للحكم الرشيد.
أما في حوار المواجهة التلفزيونية الأولى الذي دار فجر الجمعة الماضي بين رئيس الولايات المتحدة جورج بوش الابن، وبين منافسه الديمقراطي جون كيري، فقد كان كثير منه عن «الديمقراطية في الشرق الأوسط»، وفي قاعه ما يحدث في العراق اليوم، إذ يرى الديمقراطي كيري أن سياسة الرئيس بوش وإدارته في الشرق الأوسط قد تجعل الولايات المتحدة تدفع أثمانا باهظة اقتصادياً وبشرياً، ويرى بوش أن أية أثمان أو تضحيات تدفع هي من اجل توطين الديمقراطية في الشرق الأوسط هينة وبسيطة تستحق الهدف المراد!
إلا أن الأهم في هذا النقاش معرفتنا أن الاثنين، وعينهما على نتائج الانتخابات المقبلة في بلدهما في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، يقرران من حيث اعترفا بوضوح أو بمواربة، أن ما يحدث في الشرق الأوسط يؤثر على المسيرة الديمقراطية في قلب أكبر دولها في العالم، وهي اليوم الولايات المتحدة الأميركية.
انه الاتجاه المعاكس الذي يضرب مؤسسات الديمقراطية والحكم الرشيد في العواصم الغربية، فقد أصبحت «قوانين الطوارئ» التي يشتكي منها بشكل مزمن مواطنو الشرق الأوسط، مطبقة في العواصم والمدن الغربية، بسبب الخوف الحقيقي أو المتخيل من «الإرهاب»، كما أصبحت وزارات الداخلية «الخدمية» فيما مضى من الزمن في تلك الدول، وزارات لا تختلف كثيراً في مهماتها عن عمل الوزارات التقليدية في الرقابة والمتابعة. بل ان بلاداً ضخمة كالولايات المتحدة، كانت تفاخر على أنها «بلاد الحرية»، تعيد النظر من جديد، وتنشئ وزارة للأمن الداخلي بكل الدعم المالي الذي تحتاجه، وسقفاً عالياً من حرية التصرف إن استدعى الأمر، وبدلاً من شعار كل مواطن خفير، أصبح كل مواطن مشكوكاً فيه الى أن يثبت العكس.
مطارات الدول الغربية أصبحت فيها العيون أكثر من رجال الخدمة، واكتظت أجهزة الكمبيوتر بالأسماء الممنوعة والمشكوك فيها، وأصبح رفض المسافرين القادمين وإعادتهم الى بلدانهم عملية تحدث كل يوم. كانت سمة مطارات العالم الثالث المتخلف، فأصبحت قاعدة مطارات العالم المتقدم.
إذا كان الحكم الرشيد هو صفة أساسية للتنمية، فإن التنمية في تلك البلدان المتقدمة باتت تئن من كثرة القوانين المقيدة للحريات، وتشديد الرقابة وما تلاه من تقاعس الاقتصاد، وعادت العولمة بأمراض معدية لم تكن متوقعة على من أطلقها.
لقد لعب الإعلام دوراً ضاغطاً على متخذ القرار الغربي، فقد توقفت ماكينة الحكومة الايطالية لبضعة أسابيع بعد اختطاف سيدتين ايطاليتين من وسط بغداد، كما احتفل سياسياً في روما بإطلاق سراحهما، وكأنه نصر مؤزر للحزب الحاكم، إذ كانت المعارضة الايطالية تتمنى ضمناً، ولو بشكل غير معلن، ومن أجل فوزها المستقبلي، أن يحدث مكروه لتلك الرهينتين!
لا جدال في أن التأثير المعاكس على الديمقراطية الغربية من جراء شمولية الشرق، قد بدا واضحاً في الفترة الأخيرة، كما لم يحدث من قبل، الى درجة دفعت رجلاً مثل وزير الدفاع الأميركي، دونالد رامسفيلد، إلى القول إن «العراق كان بيئة اضطراب مستمرة»، بل ان بعض الكتاب مثل رئيس تحرير مجلة «نيوزويك» طالب بمد اليد رسمياً للمتمردين، ويعني هذا الكلام من جهة أخرى تأجيل «مشروع الديمقراطية» المفترض والمصدر الى الشرق الأوسط، فالحصول على شيء من الاستقرار، حتى لو كان ثمنه شمولياً من نوع ما، هو هدف قد تسعى إليه الحكومات في الدول الفاعلة حفاظاً على استمرار قيادة الحكم فيها.
يذكر تقرير بريطاني كتبه مسئول في الخارجية، انه يضع يده على قلبه عندما تثور مناوشات بين الهند وباكستان حول كشمير، إذ إن هناك جمهوراً غفيراً من البلدين يعيش ويعمل في بريطانيا، وقد يشتعل الصراع بينهما، بسبب صراع يدور على بعد بضع عشرات الآلاف من الكيلومترات. كما يلاحظ بعض الكتاب الليبراليين الغربيين ما أصبح يسمى بـ «الوطنية السامة»، إذ اندفعت تكتلات لا بأس بحجمها في المجتمعات الغربية، إلى التفكير اليميني المضاد لما يقوم به المهاجرون من الشرق في تغيير الخريطة الثقافية في بلدانهم، وأصبح مثل هذا النشاط يكسب أصواتاً في الانتخابات المحلية والقومية.
ولعلنا نذكر تاريخياً كيف أثر احتجاز الرهائن الأميركيين في سفارتهم في طهران في الهزيع الأخير من العقد السابع الماضي، على تدهور شعبية الرئيس الأميركي وقتذاك، جيمي كارتر الذي كان يسعى الى تجديد ولايته، الى درجة فقدانه السباق الرئاسي لصالح منافسه الجمهوري رونالد ريغان.
هل قلب الطاولة شيء يجب السرور له؟ طبعاً العقل ينافي ذلك، ولكن المصلحة تقود بعضنا إلى القول «رب ضارة نافعة»، فسيعود الغرب لدعوتنا إلى الشمولية لتحقيق مصالحه، ونحن عندها جاهزون، الأمر كله يحتاج إلى قليل من الصبر.
ترى هل هذه الرؤية قريبة الى الحقيقة؟ قد لا تكون بالضرورة، لكنها رؤية تستحق التفكير
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 760 - الإثنين 04 أكتوبر 2004م الموافق 19 شعبان 1425هـ