قبل أن يدخل الكمبيوتر إلى غرف الانتاج، كانت المجلات الثقافية العربية تعرض فيما يتبقى من مساحةٍ أسفل الصفحة مقتطفات صغيرة من التراث الاسلامي أو الطرائف والحكايات من أيام «الأمجاد» العربية. إحدى هذه «المقتطفات» التي اختارتها إحدى المجلات باعتبارها من «طرائف» ذلك الزمان، كانت عن رجل مسلم، وقف يخاطب الوالي في الجامع ليقصر خطبته الطويلة المملة، بقوله: «الوقت لا ينتظرك» خوفاً على فوات وقت الصلاة، فغضب الوالي وهمّ به، ووقف قومه يدافعون عنه، واتهموه بالجنون لينقذوه من يد الوالي. ولكن الرجل رفض تبريرهم وردّ عليهم بقوله ان الله أحسن إليه بالعقل ولن يقبل بأن يتهمه أحدٌ بالجنون، فما كان من الوالي إلاّ أن التزم بوقاره وأنهى القضية بهدوء. ونحمد الله انه لم يتسع المقام لأحد الشعراء المنافقين للقفز من تحت المنبر ليلعلع بقصيدة يوتّر بها الأجواء ويشحن بها صدر الوالي حتى يدفعه إلى قطع رقبة ذلك المصلي.
تذكّرت ذلك وأنا أقرأ رسالة عائلة «المتهم» عبدالهادي الخواجة، في ردّها على رئيس تحرير إحدى الصحف، الذي أوضح أن تأكيد العائلة على نفي ما جاء في المقال، انما يسهم في تأكيد التهمة الموجهة إليه، وهي تهمة ليست بالقليلة. فقد أصرّت العائلة على أن ما نطق به كان عن قناعةٍ تامة، فهو كما تؤكد عائلته متزن ومن سماته الشخصية امتلاك عواطفه في أحلك الظروف. فالأمر لا يجب أن يخرج من دائرة التعاطي القانوني العادل، إلى دائرة القذف والتشهير واختلاق الاتهامات. وكل ما نطمح إليه أن تسود لغة العقل ويترك الأمر للقضاء العادل النزيه، وتغليب لغة القانون وإجراءات العدل، بعيداً عن التحشيد والتصعيد الإعلامي الذي من شأنه تشكيل ضغطٍ مسبقٍ على أكبر القضاة وأكثرهم نزاهة واستقلالاً، وبما يؤثر حتماً على سير العدالة. فنحن لسنا في عالمٍ تسوده الفوضى، وانما في دولةٍ يجب أن يسودها القانون.
كفى خمراً!
تمنّيتُ وسط هذه الجلبة العالية لو تذكّر المسهمون فيها أن هذه الجزيرة الصغيرة المحدودة الامكانات، المثقلة بالأعباء والمشكلات، أصبحت اليوم تحت عيون العالم، لإعلانها دخول عهد الاصلاحات، وليس أدلّ على ذلك من ردات الفعل الخارجية، التي انعكست سلباً على سمعة البلد في هذا الوقت القصير جداً، بسبب الاجراءات «الانفعالية» من حلّ مركز الحقوق وإغلاق نادي العروبة، بما يعطي انطباعاً قوياً لمتابعي الأخبار في الخارج بأن هناك تراجعاً مقلقاً عن الاصلاحات. والرأي العام في الخارج لن يهمه ولن يصل إليه ما يكتب في الصحف المحلية بمقدار ما سيلفت نظره ما يقرأه في شريط الاخبار القصيرة أسفل شاشات الفضائيات على مدار 24 ساعة، من إغلاق نادٍ عريق أو حلّ مركزٍ لحقوق الانسان. من هنا فالبحرين الرسمية محتاجةٌ إلى إعادة النظر في طريقة التعاطي مع الحوادث العارضة بطريقة أقل انفعالاً، وأكثر هدوءًا، فنحن نعيش في عصر الفضاء المفتوح.
ولعلّ ما حدث يضطرنا إلى التساؤل: من المستفيد مما حدث؟ وهل ما حدث في ندوة العروبة يستحق كل هذا التجييش والتصعيد والإثارة الإعلامية؟ صحف محلية بأكملها تقوم ولا تقعد، وإعلام مستنفر الأعصاب، كأن البلد في حال طوارئ، والأصعب في الأمر ان ذلك يهدّد بضياع فرصةٍ تاريخيةٍ للبدء في مناقشة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية غير السليمة منذ عقود، والتوجه لإصلاح سوق العمل الذي يهدّد بكوارث اقتصادية واجتماعية وسياسية في أقل من عقد من الزمان. ألا يحسب على الإعلام البحريني أن يتفرّغ للرد على رأي مواطنٍ ما سُكب من الحبر الكثير من أجل إثبات انه «متهوّر» أو «منفعل» أو «مجنون»، لتأتي عائلته وتنسف كل ما قيل للناس على مدار أكثر من أسبوع، وليدافع رئيس تحريرٍ ما عن مقاله بأن هذه العبارة كانت ستفيده في مرحلة التحقيق والمقاضاة، «على أساس انه لم يكن في كامل وعيه»!
الآن، تجاوزت المجلات عصر «القص واللصق»، بعد ان احتل الكومبيوتر مكانه في غرف الانتاج، ولم نعد نقرأ في المجلات الثقافية تلك القصص والعبر التي تدلنا على الطريق الصحيح، وانما هناك ألف شاعرٍ وشويعر، كلٌ يغني على ليلاه، ويقول: عندي المزيد! وهناك من يصّر على طريقة «القص واللصق» في عصر الشفافية والفضاء المفتوح. صدقوني... لقد ملّ الناس من الخمر المعتق في تلك الدنان القديمة
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 760 - الإثنين 04 أكتوبر 2004م الموافق 19 شعبان 1425هـ