العدد 759 - الأحد 03 أكتوبر 2004م الموافق 18 شعبان 1425هـ

أول كوابيس القرار 1559 الثقافية

«إليك أعني واسمعي يا جارة»

حسن أحمد عبدالله comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أول كوابيس القرار الدولي 1559 ظهر في إلغاء مهرجان سينمائي دولي كان سيعقد في بيروت في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، ونقول عن هذا الإلغاء «كابوس» لأن لبنان المزدحم بالمهرجانات الثقافية، على مدار العام تقريباً، ها هو الآن يدخل في عزلة ثقافية أملتها المماحكات السياسية التي تدور فصولها على الرقعة الجغرافية الصغيرة التي لا تتسع في الوقت ذاته للعبة تصفية الحسابات الإقليمية والخير والجمال، فالسينمائيون المعتذرون عن عدم المشاركة في المهرجان لأسباب أمنية، هم انفسهم الذين شدوا رحالهم في السنوات القليلة الماضية إلى بيروت ليشاركوا في أكثر من مناسبة سينمائية وثقافية، وهم أنفسهم الذين أتوا إلى لبنان حين كان ضجيج طبول مفاعيل حوادث 11 سبتمبر/ أيلول يصم الآذان في كل العالم. وبعيداً عن الموقف من القرار 1559، فإن ما حدث في لبنان في الأسابيع القليلة الماضية جعل هذا البلد بمثابة «الكنة» التي يوجه اليها كلام «حماتها» حتى تسمع «الجارة»، لكن الواضح تماما أن «الجارة» تتمتع بحاسة سمع جيدة جداً، ولكن «الكنة» تريد إثارة «حماتها» لأن العلاقة بين «الحماة» و«الكنة» تكون متقلبة دائما، ففي الوقت الذي كانت فيه «الكنة» بحاجة ماسة إلى «حماتها» كانت تكيل لها المدائح ولا تفوت مناسبة إلاّ وتؤكد «تنفيذ قرارات الشرعية الدولية»، وعندما ارادت «الحماة» استخدام «الكنة» لمعاتبة «الجارة» لم تستسغ الثانية تصرف الاولى فـ «ركبت رأسها» ووقفت في وجه «حماتها». ولهذا بدأ لبنان يدفع من «اللحم الحي» ثمن معاندة «الحماة» الدولية، ولأن الصورة التي ظهر فيها في الأسابيع القليلة الماضية كانت مغايرة تماماً لما كان عليه في السنوات القليلة الماضية، لذلك أدى اعتذار الكثير من السينمائيين الغربيين عن عدم المشاركة في مهرجان بيروت السينمائي الدولي بالجهة المنظمة إلى إلغاء المهرجان، والأمر لم يقف عند هذا الحد، إذ إن الجهات الأمنية المختصة منعت يوم الجمعة الماضي نائباً سويدياً سابقاً من دخول لبنان، لأنه كان أعدّ تقريراً عن لبنان عندما كان نائباً تحت عنوان «لبنان ديمقراطية في ظل الدكتاتورية»، ويكفي أن يعلن هذا النائب وحزبه (حزب المعتدلين السويدي) أنه منع من دخول لبنان على خلفية إعداده التقرير المذكور حتى يظهر لبنان في الصورة المغايرة للحقيقة، وحتى يدخل نادي الدول العربية التي تخاف من الكلمة ولا تطيق مناقشة أي أمر من اية جهة اتت.

إن السنوات التي تلت مؤتمر الطائف وإعادة الاستقرار الأمني للبنان كان من الممكن أن تحوّل هذا البلد الى واحة حقيقية للديمقراطية ليس في العالم العربي فقط، بل على مستوى الشرق الأوسط ككل، إذ إن الارث في الهامش الديمقراطي في سنوات ما قبل الاحتراب في لبنان وعليه، وفي سنوات جنون الدم والدمار كان واسعاً، وعاش لبنان تجربة جديرة بأن يستفاد منها في توسيع دائرة الحوار، والتخلص من ذهنية التوجس والقمع، لأن ذلك يؤدي الى اثارة الغرائز عند الناس، وبالتالي يجعل من اي سلم اهلي في مهب ردود الفعل التي لا يمكن أن تؤدي الى تصرف عاقل وحكيم.

لم يعتد لبنان في العقود التي سبقت الحرب اللبنانية منع أي شاعر أو مثقف من دخول أراضيه، لا بل كان الجميع يتخذون من هذا واحة يستظلون بفيء أشجاره من عناء القمع في العالم العربي، وبيروت تحوّلت بفعل ذلك الى عاصمة النشر والصحافة العربية، حتى أثناء الحرب كانت المطابع دائمة الحركة، والصحف تصدر بانتظام، ومن لبنان الحرب انطلقت المحطات التلفزيونية العربية الخاصة، التي جعل منها البث عبر الاقمار الاصطناعية بداية لثورة إعلامية عربية، ولذلك عندما يمنع الشاعر العربي الكبير سميح القاسم من دخول لبنان العام 1998 ليتسلم جائزته في «دورة الاخطل الصغير» التي عقدتها مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري آنذاك في بيروت، وعندما يمنع عزمي بشارة من دخول لبنان، لأنهما يحملان جوازي سفر اسرائيليين، وهما من خيرة المناضلين والمقاومين الفلسطينيين، وعندما يمنع النائب السويدي السابق، وقبله يمنع أحد الكتاب اللبنانيين اليهود والمعادي للصهيونية و«اسرائيل» من دخول لبنان في الذكرى الخمسين لاحتلال فلسطين من دخول بلده لبنان، وهو بالمناسبة يحمل الجنسية الفرنسية ولم تطأ قدماه أرض فلسطين المحتلة منذ هاجر أثناء الحرب اللبنانية، فإن كل ذلك يجعلنا نخاف نحن اللبنانيين من ان يصبح لبنان بلداً قمعياً لا تطاق الحياة فيه. وبدلاً من أن يزداد عدد اللبنانيين العائدين الى وطنهم تستمر وتيرة الهجرة على ما هي عليه حتى يفرغ لبنان من أدمغته.

إلغاء المهرجان السينمائي الدولي يمثل كابوساً في سلسلة الكوابيس التي ستتوالد على وقع اللحن الذي سيعزف على «نوتة» القرار الدولي 1559 لأنه البداية، بداية كل الصور غير المحببة الى نفوسنا التي تنتظر لبنان بعد اسابيع قليلة، والامثلة والشواهد التي سيقت في هذه العجالة تؤكد أن الكنة اللبنانية أصبحت ملكية أكثر من الملك ذاته، وأخذت تدافع عن الجارة بكل شراسة في الوقت الذي تعمل فيه الجارة وبكل قوتها على إرضاء «الحماة» الدولية وغيرها من سائر الحموات، أي أن لبنان بات يظهر بصورة «القبضاي» الذي لا يعمل عقله كثيراً في المشاجرات التي يفتعلها غيره، لا لشيء إلاّ لأنه يريد أن يظهر بمظهر «القبضاي» لا أكثر ولا أقل!

إن أشد ما يؤسف له أن تبدأ المهرجانات الثقافية والفنية بالتوقف تحت ذريعة «المخاوف الأمنية في لبنان» ومعها ستبدأ أفواج السياح العرب والأجانب بالتقلص وبالتالي ستزداد حدة الأزمة الاقتصادية وستزيد معدلات التضخم ويتراكم الدين العام اللبناني، وستخمد الشمعة المضيئة في النفق اللبناني، وعند ذاك سيكون لبنان الرسالة والدور قد خسر كل شيء، فهل يحتمل لبنان كل ذلك، لأن الكنة تريد أن تكون أكثر خوفاً على مصالح الجارة من الجارة نفسها؟

مدير القسم الثقافي بصحيفة «الرأي العام» الكويتية

العدد 759 - الأحد 03 أكتوبر 2004م الموافق 18 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً