«يهب مع ثم ريح ويسعى مع ثم قوم ويدرج في ثم وكر» يضرب هذا المثل للإمعة، وفي انماط الحكم المتخلفة تنمو وتتوالد أشكال كثيرة من الإمعات (جمع إمّعة)، ويقود هذه الإمعات رؤوس النفاق السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، ومجتمعاتنا العربية ملأى بأمثال هؤلاء فلا يفوتون استغلال فرص الظهور المنافق يؤيدهم في ذلك «إمّعات» من كلّ حدب ينسلون.
النفاق ليس مقصوراً على طائفة أو فرقة دينية أو سياسية، بل هو مهنة يرتزق منها المنافقون، وأخطر صور النفاق هو النفاق السياسي الذي يؤدي إلى خراب الأوطان وحرف المجموعات الإنسانية عن القيم النبيلة، ونطاق تطبيق النفاق السياسي يتمحور في أروقة الحكم والسلطات.
إن ممارسة النفاق في الدول العربية لا حدود أفقية أو عمودية لها (سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو حتى رياضية، وطبقة تجارية إلى طبقة عمالية إلى برجوازية صغيرة... إلخ)، فالاكاديمي يجهد في وضع الدراسات التخصصية التي تؤيد رأي السلطة، والمثقف لا يدخر وسعاً في البحث عن قصاصات روائية من هنا وهناك لتبرير أعمال السلطة، بل وحتى الأندية الرياضية يتم الزجّ بها في عملية نفاق عام يسود مختلف القطاعات في تلك الدول... وهكذا تتطاير ذرات غبار النفاق العام للتمويه على القضايا الرئيسية (من إصلاح شامل وفاعل في شتى الميادين). وتقوم تلك العصابات بعمليات التمجيد السياسي وتنويم الشعوب بالمخادعة والمراوغة واللف والدوران وتصوير الأمر على غير ما هو قائم، وتحوير الصراعات (صراع من أجل الحقوق واللقمة) إلى صراع من أجل الحكم! وهو الفزاعة المتجددة في المجتمعات المتخلفة التي لا تمتلك السلطات السياسية شرعية وأوكسجين بقائها إلا بترديدها من فترة لأخرى ومن حين لآخر لكسب طرفٍ ضد آخر، وتأمين الانشطار العمودي اللازم كما يذهب إلى ذلك الباحث عبدالهادي خلف.
تلك البطانات الفاسدة لا تعيش إلا في أجواء هذا النفاق العام، الذي يضرب الحياة العامة برمتها، وتحاول البطانات الفاسدة خلق فزّاعة قديمة متجددة كلما سنحت الفرصة لها للقيام بمثل هذا العمل الراقص على أوتار الطائفية أحياناً والمناطقية أحياناً أخرى. عمليات النفاق الرخيصة في الأنظمة المتخلفة توازي عمليات الاستعمار الدنئ ونهب خيرات الشعوب من قبل دول الاستكبار العالمي والعولمة الجديدة الجاثمة على صدور قوم والمنتظرة الانقضاض على قوم آخرين، ذلك أن الهدف واحد وإن تعددت الوسائل.
مذ تأجيج الموقف في مواجهة عثمان بن عفان (رض) وحتى يومنا الحاضر، والمشاهد تتكرر، تقترب وتبتعد قليلاً عن المشهد العام الذي كان سائداً في تلك الفترة، علي بن أبي طالب (رض) يدفع بأبنائه حماية للخليفة ولكن «اللجلجة» الكبيرة التي أحدثها المرجفون في المدينة كادت أن تحرق بيوت الأوائل من المهاجرين والانصار، ويمكث الخليفة الثالث في بيته يقرأ القرآن ويدخل عليه أسامة بن زيد (رض) ناصحاً له، ولكن يقتل الخليفة الثالث على المشهد ذاته مضرجاً بدمائه والقرآن بين يديه. الأدوار تتغير... والمواقف تتبدل؛ ولكن يعاد تركيبها من جديد (في صالح القوى المسيطرة على السلطة والثروة) في مسرحية فصولها لم تنتهِ بعد... والسؤال أما آن الآوان لمعالجة هذا السرطان الاجتماعي المسمى بالنفاق السياسي؟ يبدو أنه لم يحن بعد
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 759 - الأحد 03 أكتوبر 2004م الموافق 18 شعبان 1425هـ