ليس المهم من يفوز في المناظرات الرئاسية التلفزيونية التي تجري عادة بين المتنافسين الجمهوري والديمقراطي. فهذه المناظرات تنتهي في معظم الأحيان إلى التعادل، وأحياناً يدعي كل فريق حزبي أن مرشحه هو الأفضل لكسب مزيد من الأصوات أو للتشويش على الخصم.
المناظرات ضرورية للرأي العام ولكنها لا تؤثر كثيراً على الناخب الأميركي المصادر من جهات مختلفة ويقع تحت تأثير جهات تملك الإمكانات والوسائل والمال في صنع «القناعات» وتغيير الوجهات.
حتى لو اكتسح أحد المتنافسين وجهات نظر الآخر تبقى الأمزجة عرضة للتقلب. والغلبة في النهاية لصاحب المشروع الواضح والمبسط والبسيط في لغته التي تجذب الناخب للتصويت لهذا المرشح أو ذاك. والاهم من ذلك تلعب المؤسسات الثابتة دور التقرير في تحديد مرشحها. وتبدو حتى الآن أن المؤسسات الثابتة اختارت جورج بوش لولاية ثانية. فالمرشح الجمهوري كما تظهر الصورة قبل خمسة أسابيع من المعركة يبدو هو الخيار المفضل لدى مؤسسات التصنيع الحربي وشركات النفط وغيرها من هيئات مالية ونقابية. فهذه المجمعات ترى في بوش هو الطرف الأقوى في المعادلة في حال استمر جون كيري على تردده وعدم وضوح خطوطه السياسية واستراتيجيته العامة.
كيري حتى الآن لم يفلح في رسم خطوطه العريضة التي تبسط الأمور وتعيد صوغها برنامجياً لاقناع الناخب الأميركي بمخاطر أخطاء بوش وانعكاس سياسته سلباً على أمن المواطنين ومستوى معيشتهم. فالمرشح الديمقراطي لايزال في خط الدفاع ولم ينتقل إلى خط الهجوم الذي يفترض من قائده وضع تصورات للبدائل التي يطمح إلى تقديمها.
بوش في هذا المعنى أكثر وضوحاً وسذاجة. ولعبه دور الساذج خدمه كثيراً في تمييع صورة رئيس لا يعرف ماذا يحصل ولكنه يعرف كيف يرد على التحديات والصعوبات؟ وبسبب تلك الصورة اكتسب بوش تعاطف الطبقات الوسطى التي تميل عادة إلى التخوف من الرئيس الذكي والمخادع والطموح.
بوش حتى الآن نجح في منع كيري من تحويل أنظار الناخب من الخارج (المخاطر الأمنية) إلى الداخل (الكوارث الاقتصادية) وحدد سياسة واضحة المعالم تعطي الأولوية للأمن وملفات مكافحة الارهاب وتغليب اقتصاد الحرب على اقتصاد الخدمات.
في المقابل فشل كيري في تحديد خياراته وأحياناً يتناقض في تصريحاته بشأن الملفات الخارجية وتحديداً في موضوعات العراق وفلسطين و«الشرق الأوسط» والنفط وغيرها. كذلك يجد كيري نفسه في موقف حرج يزايد على بوش اسرائيلياً من دون توضيح أهدافه، كذلك لا يستطيع الذهاب بعيداً في قطع صلاته بالملف العراقي لأنه صوت في الكونغرس لمصلحة الحرب على العراق في لحظة اندفاع الحماس لتمويل موازنة الحروب ضد شبكات «القاعدة».
كل هذه العناصر تقلل كثيراَ من أهمية المناظرات لأنها لن تقدم أو تؤخر في نسبة المؤيدين لبوش أو كيري وخصوصاً أن المؤسسات الثابتة (صانعة القرار) تميل إلى التجديد لبوش دورة ثانية. الا أن تفضيل مؤسسات صنع القرار بوش على منافسه لا يعني أن المعركة حسمت منذ الآن. فهناك احتمالات كثيرة غير منظورة يمكن أن تظهر في الأسابيع الخمسة المقبلة التي ستعقد خلالها ثلاث مناظرات تلفزيونية.
في جعبة كيري مجموعة أوراق لم يلعبها حتى الآن. الورقة الأولى هي الأقليات فهو كسبها لمصلحته نسبياً ولم يكسبها كلياً. فالمؤشرات تقول إن غالبية الأقليات من عرب ومسلمين وسود وكاثوليك ويهود ستدلي باصواتها إلى كيري ولكن بوش لايزال يتمتع بشعبية وسط هذه الأقليات الأميركية.
الثانية ورقة النفط وهي مهمة لأن بوش برر كل حروبه من أجلها وجاءت النتائج تعطي سلبيات اثقلت كاهل الموازنة والاقتصاد والمستهلك. فالأسعار ارتفعت إلى الضعف، وفاتورة النفط ارتفعت إلى الضعف، والمستهلك أرهق من ارتفاع كلفة الطاقة في وقت تشير التوقعات إلى ارتفاع الاستهلاك العام للنفط في العام المقبل بزيادة يومية تصل إلى 380 ألف برميل.
الورقة الثالثة هي الفقر وازدياد نسبته في عهد بوش اضافة إلى تراجع التأمين الصحي لمصلحة ارتفاع نفقات الدفاع والحروب. مثلاً ذكرت مؤسسة «صندوق الدفاع عن الأطفال» في تقريرها السنوي أن واحداً من كل ستة أطفال يعيش في الفقر، وأن 13 مليوناً من الأطفال ينتمون إلى أسر تعاني من الجوع أو نقص الغذاء. كذلك اشارت الأرقام إلى حرمان 45 مليون نسمة من التأمين الصحي في العام 2003 أي بزيادة 1,4 مليون شخص عن العام 2002.
كل هذه المصائب تعود إلى سببين حروب بوش (موازنة الدفاع والأمن) وجشع شركات النفط بالسيطرة على المنابع والآبار بالتحالف مع مؤسسات التصنيع الحربي. فالسياسة السيئة خارجياً انعكست سلبياً على الداخل. وهذه في النهاية نقاط قوة لكيري ويمكن أن يستفيد منها في حشر منافسة في المناظرات حتى لو كانت مؤسسات صنع القرار تبنت بوش في معركة الرئاسة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 757 - الجمعة 01 أكتوبر 2004م الموافق 16 شعبان 1425هـ