في كتاب «الملل والنحل» يتحدث الشهرستاني عن خلافات المسلمين. فالخلافات ليست جديدة بل تعود إلى البدايات الأولى نظراً إلى الانتشار الذي حققته الدعوة في فترة زمنية قصيرة ودخول الإسلام الكثير من الشعوب والأقوام والقبائل.
إلا أن الاختلاف لم يكن على الجوهر (الأصول) وانما تركز على المسائل الفرعية وما استوجبه الواقع من تحولات أملت على المفسرين والشراح توضيح الأمور العالقة وإعادة ربطها بالمصالح المرسلة.
إلى ذلك برزت في الإسلام مجموعة اجتهادات لم تكن متعادلة في مستوى طرحها للأمور أو انضباطها مع سياق الدعوة. فخرجت الكثير من المدارس عن أطر الدائرة وأخذت توجه سهامها للأمة انطلاقاً من رغبات موروثة أو بسبب نمو ظواهر ارتبطت بمصالح مؤقتة أعطت ذريعة لبعض المفكرين في اتخاذها منطلقات للتجريح برسالة العدل والتوحيد.
يتحدث العلماء والفقهاء والأئمة والقضاة كثيراً عن مصادر الانقسام. وغالبيتهم اجمعوا على رفض التكفير لأن هذه التهمة خطيرة ويصعب استخدامها كسلاح سياسي - فكري حتى لا تنقلب إلى الضد وتصبح مجرد وسيلة من وسائل القمع ومنع المختلف من التعبير عن رأيه. لذلك ترى أن الأمام الاشعري توفي 324 هـ لم يوجه تهمة الكفر للتيارات الايديولوجية التي اختلف معها ونقاشها وساجلها في كتابه «مقالات الإسلاميين». فهو اعتبر وجهات نظرهم مجرد «مقالات» كذلك لم ينزع صفة الإسلام عنه فهم في النهاية من المسلمين.
الأمر نفسه فعله الما تريدي (أبومنصور محمد). فهذا الفقيه الحنفي الذي عاش في سمرقند قاوم في عصره (توفي 333 هجرية/ 944م) فرق المعتزلة والفرق الأخرى كالقرامطة والكراسية وساجل ضدهم فكتب «التوحيد في علم الكلام» ورد على القرامطة في كتاب مستقل كذلك فعل مع المعتزلة حين عمد إلى تفكيك خطابهم في كتاب اسماه «أوهام المعتزلة».
هذا النوع من الجدل الفكري اسهم في تطوير علم الكلام في الإسلام ولعب في بلورة منهجيات نقدية طورت منهج «الجرح والتعديل» الذي ابتكره العلماء والفقهاء في المئة السنة الأولى من الهجرة حين عمدوا إلى جمع احاديث الرسول (ص). فالجدل في الإسلام بدأ مع بدايات الدعوة وهو في أصله منهج قرآني نص عليه الكتاب وحثت السنة على وجوبه لأنه يشحذ الذهن ويشجع العقل على التفكير والابتكار واختراع أدوات التطور التي تساعد الإنسان على تذليل العقبات والسيطرة على المشكلات واحتواء اللازمات. فالحياة عموماً صعبة وحتى يتغلب الإنسان على حواجزها لابد له أولاً من الاعتراف بوجود صعوبات، ولابد له ثانياً من اكتشاف الوسائل التي تساعده للتغلب عليها.
الاختلاف إذاً مسألة مشروعة. الممنوع هو الفتنة واستخدام العصبيات كوسيلة للتفرقة بدلاً من البحث العقلاني عن وسائل تسعف على تذليل المشكلات وفي طليعتها تلك المتعلقة بحياة الناس وما يتفرع عنها من أفكار ومصالح ليست موحدة أو متجانسة بالضرورة.
ابن خلدون تحدث عن «الفقه الخلافي» وابن الساعاتي أشار إلى «اختلاف المجتهدين» وقبلهما تحدث الشهرستاني عن فقه الاختلاف وأشار إلى أن المسلمين اختلفوا في الكثير من الحقول والشئون الدينية والعقلية، ومنها تلك المتعلقة بمسائل التوحيد والعدل والوعد والوعيد والسمع والعقل. وأهم تلك الاختلافات كان الخلاف على «الواحد». فهل «الواحد» من العدد أم هو مبدأ العدد وليس داخلاً فيه؟ فهناك من اعتبر «الواحد» ليس عدداً لأنه علة العدد ولا يدخل فيه. وهناك من اعتبر أن العدد يبدأ من اثنين وينقسم إلى زوج وفرد وهكذا. ولأن الواحد لا ينقسم فاعتبر أنه أصل الاعداد وليس رقماً يدخل فيها.
هذا النوع من الخلاف الفلسفي ليس مجرد حوارات جدليه تقال للكلام فقط، بل هي تعكس ذاك المستوى من التطور الاجتماعي - الثقافي الذي وصل إليه المسلمون في فترات حياتهم الطويلة قبل أن ينتكس المقام ويبدأ التدهور والانزلاق نحو التعصب الذي جوف العقل وفرغ الإنسان من روحه الطامحة إلى المعرفة.
والطموح إلى المعرفة يحتاج دائماً إلى اشباع وهذا لا يتأتى من دون جدل راق لا يتردد في فتح مختلف الملفات التي مست في احيان كثيرة «الذات الإلهية». فالخلاف مثلاً على «الواحد» كشف عن وجود اتجاهات تشكك أصلاً في وجود الواحد وهذا ما دفع العلماء والفقهاء والائمة والقضاة إلى التفكير بالمسألة لا إلى تكفير القائلين بها. فالتفكير يسبق التكفير ولذلك نشأت مدارس جدلية تبحث فلسفياً في عمق المسائل الدينية والايمانية. فالما، تريدي الذي اعتبر من ائمة علماء الكلام والأصول مثلاً تحولت سجالاته إلى مدرسة في الجدل وأخذها العلماء لاحقاً كأصل من أصول الفقه. فهذا الفقيه الحنفي الذي خاض في سمرقند معارك كلامية أبرزها كتابه المهم الذي رد فيه على شيخ المعتزلة في عصره ابي القاسم الكعبي أوضح فيه ما اسماه «اوائل الادلة» واردفه بكتاب آخر حدد فيه «تأويلات أهل السنة في تفسير القرآن» كشفت عن قابلية المجتهد المسلم إلى الانفتاح على الجديد واستيعابه والرد عليه وتجاوزه. فهذه الكتب السجالية اسهمت لاحقاً في تطوير مدارس الفقه فتأسست في ضوء ملاحظاتها اتجاهات بحثية عرفت لاحقاً بمدارس علم الكلام، ومنها كانت المدرسة الاشعرية والمدرسة الماتريدية وغيرها من اجتهادات.
كل المسائل كانت مطروحة للنقاش ولم يكن الاجتهاد يطاول الفروع بل اشتمل على الأصول وأيضاً كل ما له صلة بالأصل الأول أو علة العلل والواحد والجزء الذي لا يتجزأ. هذا النقاش يكشف عن رقي ولا يدل على ضعف. فالضعيف هو المتعصب الذي تنقصه الحيلة ولا يدرك الاشياء بوعيه وقدرته على الاستيعاب والتجاوز.
الجدل هو صفة من صفات القوي الذي يثق بنفسه ويؤمن بما يقوله وعنده الاستعداد للاستماع والتعرف على ما يريده الآخر. لذلك لم يتردد العلماء والفقهاء والائمة والقضاة في التهرب من المكاشفة والدخول في سجالات كان لها وقعها الخاص في تطوير مناهج البحث والتفكير والانطلاق دائماً نحو عالم أوسع من تلك الحلقات الضيقة والعصبيات المجوفة والتوترات التي تثير الفتنة والضجيج وتعطل على العقلاء امكانات التحاور للوصول إلى الأفضل والأحسن.
الشهرستاني حين تحدث عن الاختلاف اراد ان يؤرخ لبذور تلك الآراء بالعودة إلى جذورها ومحاولة ضبطها وتفسيرها. إلا أن الأهم من ذلك هو أن تلك الخلافات أو الاختلافات تكشف عن وجود تطور في الوعي، اكتشف أن التغلب على الازمات لا يكون باخفاء معالمها أو نفي وجودها وانما بالتغلب عليها. والتغلب على الازمات والمشكلات يبدأ بالاعتراف بوجودها والعمل على اختراع أدوات تسعف الإنسان على ايجاد مخارج لها وحلها بالحسنى لا بالقوة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 756 - الخميس 30 سبتمبر 2004م الموافق 15 شعبان 1425هـ