العدد 756 - الخميس 30 سبتمبر 2004م الموافق 15 شعبان 1425هـ

منهج التأصيل النظري في فكر الإمام الصدر (4)

عبدالجبار الرفاعي comments [at] alwasatnews,.com

مفكر اسلامي عراقي

لعل التوفيق والنجاح الكبير الذي تحقق على يد الشهيد الصدر في الدراسات القرآنية، كان ثمرة ناضجة لمنهج التأصيل النظري، ذلك المنهج الذي ولد في ذهنه منذ أوائل العقد الثالث من عمره، وقطف الشهيد الصدر ثمرته باكراً في «اقتصادنا»، أي قبل حوالي عشرين عاماً من تاريخ صوغ للمعالم والأسس التفصيلية النظرية لهذا المنهج، ومحاولة تطبيقه في ميدان الدراسات القرآنية.

ولم ينس ان يشدد على ما يمكن ان ينجزه تعميم تطبيق المنهج النظري في البحوث الفقهيه، في بداية كلامه عن مبررات استخدامه في تفسير القرآن الكريم، فقد أكد ضرورة ان يتوغل الاتجاه الموضوعي في الفقه، لابد ان يتوغل، لابد ان ينفذ عمودياً، لا بد ان يصل الى النظريات الاساسية، لابد ألا يكتفى بالبناءات العلوية، بالتشريعات التفصيلية، لابد ان ينفذ من خلال البناءات العلوية الى النظريات الاساسية التي تمثل وجهة نظر الاسلام، لأننا نعلم ان كل مجموعة من التشريعات في كل باب من ابواب الحياة ترتبط بنظريات اساسية، ترتبط بتطورات رئيسية، احكام الاسلام، تشريعات الاسلام في مجال الحياة الاقتصادية ترتبط بنظرية الاسلام.

(1) يعتبر كتاب دستور الاخلاق في القرآن للعلامة الدكتور محمد عبدالله درّاز، وهو رسالته الاساسية التي نال بها درجة دكتوراه الدولة من السوربون في باريس، اول محاولة رائدة على طريق اكتشاف نظرية الاخلاق في القرآن، في هذا العصر. لكن هذه الرسالة التي قدمت نسختها الفرنسية الى المطبعة العام 1948، لم تظهر ترجمتها العربية الا بعد ربع قرن من ذلك التاريخ، واكثر من خمسة عشر عاماً على وفاة مؤلفها.

المذهب الاقتصادي في الاسلام

وكأن الشهيد الصدر ينعطف نحو الماضي، فيعود الى ما قبل عشرين عاماً تقريباً، مذكراً بأن عملية التأصيل النظري التي يقوم بها هنا في حقل الدراسات القرآنية، لم تولد في فراغ، ولم تكن مقطوعة الجذور، وانما هي محاولة اخرى في تطبيق هذا المنهج واتمام بنياته، وهي تكمل ما تم من خطوات سابقة على هذا الطريق.

وان كانت الاسس النظرية تتبلور تلقائياً حين تحتضن محاولات التطبيق، وبذلك تدفقت في صورتها التامة والناضجة على يد الشهيد الصدر، في المرة الاخيرة التي كان يطبق فيها منهجه هذا في الدراسات القرآنية، إذ مهّد لعمله هذا ببيان الاطار العام للاتجاه الوحيدي او الموضوعي - كما اسماه هو - وأركانه ومقوماته الرئيسية، والمبررات والاسباب التي تقضي باستخدامه في الدراسات الاسلامية المعاصرة عموماً، والدراسات القرآنية بشكل خاص.

وهي المرة الاولى التى تبرز فيها التفاصيل والأسس النظرية للمنهج الذي تواصل استخدامه في اعماله منذ البدايات، ولم يتخلف في واحدة من اعماله اللاحقة.

وان كان ظهور الافكار النظرية الاولى في تأصيل هذا المنهج يعود الى التمهيد الواسع للجزء الثاني من اقتصادنا والذي انبسط على أكثر من خمسين صفحة من الكتاب، تحت عنوان عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي ص 375 - 429، وأوضح فيه كيفية استخلاص وصوغ مذهب الاسلام الاقتصادي في ضوء معطيات القرآن الكريم، والسنة الشريفة، والتراث الفقهي، وأماط اللثام عن مجموعة المشكلات التي تمنى بها مثل هذه العملية الاجتهادية، والسبل الكفيلة لتفادي الوقوع في تلك المشكلات، بعد تحديد الاطار المرجعي النظري الذي يتقوم على اساسه النسق العام لبناء المذهب، ويتم تركيب ركائزه ومقوماته كافة.

في هذا الضوء استطاع الشهيد الصدر ان يؤصل لمنحى جديد في عملية الاستنباط الفقهي، لا يستعين بالادوات المتعارفة في عملية الاستنباط، مما كانت تؤمنه العناصر والقواعد المشتركة في علم اصول الفقه، لا يستعين بها فحسب، وانما يعمد على الافصاح عن ولادة قواعد جديدة ينبغي ان تستلهمها بحوث اصول الفقه، بعد ان تحرك البحث الفقهي من خندقه التقليدي ووطأ ارضاً بكراً، لم يعرفها الاسلوب المتداول في الاستنباط.

ولا نزعم ان الشهيد الصدر فرغ من تأصيل تمام القواعد اللازمة في اصول الفقه لعملية استنباط وصوغ النظرية، ولكنه اشعل اول شمعة في الطريق لمن جاء بعده، ومن المعلوم ان القواعد الاصولية انما تتحرر بصورة طبيعية في فضاء الممارسة العملية للبحث الفقهي، باعتبارها تؤمن الاجابات والحلول للمشكلات التي تثيرها تلك العملية، ولذلك لا يمكن ان يتكامل بناء القواعد الاصولية ويولد علم اصول فقه جديد يتولى تأمين المستلزمات والأدوات الأساسية لاستنباط النظرية الفقهية في أي حقل من حقول الحياة، من دون ممارسة الفقيه لعملية استنباط النظرية، وما يمكن ان تفرزه هذه العملية من استفهامات واشكالات، تتولى اثارة وعي العقل الاصولي، وزحزحته من الدائرة التي ألفها، واقحامه في مسارب جديدة، ما كان له ان يبلغها لو ظل مرتهناً للاشكالات القديمة التي تكررها عملية الاستنباط التقليدية.

هكذا ينمو ويتطور الفكر الاصولي، من خلال تفاعله مع البحث الفقهي، ووقوفه على رهاناته وما تتمظهر به. وكلما تكامل الفكر الاصولي واكبه تطور وتكامل التجربة الفقهية، باعتبار ان علم الاصول يؤمن للفقيه الادوات اللازمة له في عملية الاستنباط، فتنمو هذه العملية افقياً ورأسياً تبعاً للنمو في أدواتها.

وبعبارة أخرى هناك تفاعل وتأثير متبادل بين نمو وتطور الفقه والأصول، فبينما يقتحم الفقه آفاقا جديدة، يستجيب له اصول الفقه فيقعّد مجموعة قواعد وأسس تمكّنه من التغلب على المشكلات والاستفهامات التي تثيرها عملية الاستدلال الفقهي، وهكذا تتحرك التجربة الفقهية في فضاءات اخرى عندما ينتهي العقل الاصولي الى ابتكار وتقنين قواعد جديدة(1).

من الواقع الى فقه النص

اتسم المنهج الذي اعتمده الشهيد الصدر في التنظير لمواقف الاسلام من مشكلات الحياة المتنوعة بتحليل مدلولات النص في ضوء معطيات الواقع، ونتائج التجربة البشرية على الارض، وما تفرزه وتقرره هذه التجربة من تقدم او تراجع، فهو حين يكتب ينظر ويتأمل في حياة الانسان، ويتدبر الواقع، ويسعى لوعي واستيعاب مكتسبات تلك التجربة وآثارها المختلفة، كما يتفاعل مع التجربة الخاصة للحركة الاسلامية، ويسبر غور هذه التجربة ليلتقط ما يرهصها من تحديات، باعتبارها تسعى لتطبيق الاسلام في هذا العصر من خلال اقامة الدولة الاسلامية، فيعكف على استنطاق النص (القرآن الكريم، والسنة الشريفة) ومحاورته في ضوء الاشكالات التي يعكسها الواقع

إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"

العدد 756 - الخميس 30 سبتمبر 2004م الموافق 15 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً