العدد 2802 - السبت 08 مايو 2010م الموافق 23 جمادى الأولى 1431هـ

سترة بين الماضي والحاضر

أحمد العنيسي comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

حينما تختلج في نفسك مشكلة بيئية تتمثل في تسرب غازات من المصانع والمصافي وغيرها لمجتمع تنتمي إليه وتهمك قضاياه يصعب السكوت عنها وتجاوزها، بل يستدعي منك وقفة جادة ومسئولة.

إذا وصل هذا الأمر إلى وضع خطير ومن سيء إلى أسوأ بسبب الإهمال المتعمد غير المسئول، وبرغم اننا لسنا بصدد استعراض المآسي والأمراض التي لحقت بأهالي المنطقة التي تحتاج إلى مقال آخر, إلا أن الحاضر والمستقبل يحتم علينا أن نستذكر الماضي، ففي السابق كانت سترة تعتبر من أفضل أجواء البحرين نقاء وصفاءً مما حفز الكثير من البحرينيين للاصطياف بمزارعها وبين عيونها ويقضون فيها أمتع الأوقات، ويمكننا تشبيهها بمصحة طبية، في بلدان أوروبا الشرقية لما كانت تمتاز به من جو نقي مريح خالٍ من ضوضاء الشركات والمصانع والسيارات.

وكان يلجأ إليها المرضى المصابون بالتنفس الرئوي والأمراض الجلدية للراحة والاستجمام بين ينابيعها والسباحة في عيونها الطبيعية منها عين الرحى والسيفانية ومهزة وعين عبدان وسالم حمد, ولكن بالمقابل أصبحت الآن يهجرها أهلها وقاطنوها، هرباً من الأمراض التنفسية وفقر الدم المنجلي وأمراض الجلد والسرطانات بعد أن غزتها المصانع والشركات ومعارض السيارات، وبسبب انبعاث الغازات السامة من هذه المصانع التي تحيطها من جميع الجهات، راح ضحيتها عدد من القتلى من أهل المعامير مما جعل أهلها يصرخ ويرفع شعاراً يقشعر له القلب «نحن قتلى وليس قتلة».

ومما يدفع أهل المنطقة الى الوقوف ضد هذه المصانع ما آلت إليه البيئة من تدهور مستمر وفي ازدياد يصعب استيعابه، وخصوصاً أنها لا تقوم بتصحيح وضعها ولم تعالج أخطاءها، كما أنها لم تقدم أي شيء يذكر لأهالي المنطقة في مشروعات النظافة والتشجير ولا أي جهد في تبني منشآت زراعية وزيادة المساحات الخضراء لاحتواء ملوثاتها، وأيضا ولا مساعدات ملموسة اجتماعية أو خدماتية أو اقتصادية أو علمية لأبناء المنطقة، سوى قذف سمومها في الأجواء وتلويث المنطقة، مع أن من الواجب الوطني أن تقوم بمساعدة المنطقة وأبنائها وأن تكون صديقة للبيئة الستراوية التي احتضنتها، كأن تخدم البيئة بزراعة الأشجار والنخيل والقيام بمشروع الحزام الأخضر حول المنطقة لتقليل نسبة التلوث من العناصر الثقيلة القاتلة (الراديوم والكروم والكادميوم والكوبلت والجاليوم والفانديوم والتيتانيوم والزئبق والزنك والرصاص والمنجنيز وغيرها الكثير)، وامتصاص الغازات السامة التي معظمها تنتج من مصافي النفط والبتروكيماويات (CO،SO2، SO3، NO2، N20، NH3، O3، NO3، NO، C2H6، CH4، (H2S وغاز CO2 الذي يستخدمه النبات في عملية صنع غذائه «البناء الضوئي».

ما أثارني ودفعني لكتابة هذا المقال ما سمعته من قصص خيالية، من المجتمع والآباء والأجداد عن كيف كانوا يقضون وقتهم بين جداول مياهها العذبة وأشجارها المثمرة ذات الطبيعة الخلابة وعن قصصهم الجذابة التي تجعل المرء يستشعر عن بعد ما كان يعيشه أجدادنا، وخاصة عندما يروون بأن سترة كانت تلفها الأشجار والبساتين والعيون من جميع الجهات ولهذا سميت سترة بهذا الاسم بسبب إحاطتها وستارها بالأشجار والنباتات المختلفة مما يجعل قاطن المنطقة تنتابه الحيرة ويعمل وجه المقارنة ولكن في الخيال الذي يعجز علم الاستشعار عن بعد في تحليله.

وجه المقارنة بين سترة الماضي والحاضر بعيد عن علم الاستشعار، حيث إن هذا العلم يقيس بعد المسافات وليس الأزمنة، نستطيع القول بأن بيئتها تغيرت جذرياً، فالجو بعد أن كان لطيفاً ومنعشاً والهواء نقياً صافيا لا تشوبه شوائب ولا معلقات من الغبار والغازات والأدخنة التي تمتص من قبل الأشجار الكثيفة والنباتات المختلفة التي تعم الجزيرة، وكذلك البحر النقي الذي تحول من محلول الى مخلوط - المحلول عبارة عن خليط من مادتين تكون احداهما ذائبة في الأخرى بينما المخلوط هو خليط من عناصر ومركبات غير متجانسة (شوائب متنوعة والغبار وجزيئات مختلفة من المواد الكيميائية وغيرها) - ولو حاولنا الآن القيام بتحليل ماء البحر لوجدنا انه غير متزن كيميائيا وأصبح محلولا مركبا معقدا من المركبات الكيميائية الهيدروكربونية الأليفاتية والحلقية نتاج التلوث النفطي ومياه المجاري وحوادث السفن ومخلفات المصانع ودفان البحر وغيرها بعد أن كان محلولا من الماء كمذيب وملح الطعام كمذاب، ولو قمنا أيضاً بتحليل الهواء والماء بأحدث الأجهزة لمحلل الغازات والأجهزة الطيفية وأجهزة الامتصاص الذري وغيرها لحصلنا على مركبات كيميائية معقدة وغريبة لم يستدل عليها ولن يفهمها أخصائي المختبرات العلمية بالأجهزة الحديثة والبيئية وعلماء الكيمياء العضوية وذلك بسبب تراكم الملوثات الطبيعية المختلفة، وحدث كل هذا بسبب عدم اكتراث أجهزة الدولة، والإهمال الذي وقع على جميع البيئات المختلفة.

ولو نظرنا وسلطنا الضوء بنظرة تحليلية ثاقبة وقراءات حصيفة، لوجدنا عجائب عظاماً لا نستطيع أن نحصيها بهذا المقال، فقد تحولت سترة الغنية بالأشجار والطيور - التي ذكرها مرتادو مجلس أحد الأصدقاء عن أنواع الطيور أثناء وجودي في ذلك اليوم وكانت ذكرياتهم التي يسردونها بنبرات تستشف منها الحسرة والألم وتستلهم منه التراث الماضي - ومما ذكر، طير الأشول والحمامي والجارد والشرياص والخطيبي والخضيري والرماني والسمن بشتى أنواعه والنباتات المختلفة التي تغطي اليابسة وترعى منه الأغنام والأبقار والخيول المنتشرة، فترحمت على كلمة التنوع البيولوجي والسلاسل الغذائية التي نقوم بتدريسها ولا نتلمسها بالواقع، والبحر النقي والعيون العذبة إلى سترة المصانع والأمراض المتعددة المعدية والهواء القاتل ذي الروائح الكريهة، وسترة الجزيرة بلا شواطئ والبحر الملوث بكل أنواع الملوثات وانحسار العيون واستنزافها حتى أصبحت بلا مجرى مائي, سترة الحقول والمزارع بلا أشجار ونباتات.

إقرأ أيضا لـ " أحمد العنيسي"

العدد 2802 - السبت 08 مايو 2010م الموافق 23 جمادى الأولى 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • سترة نور العين | 8:16 ص

      ستـــــــــــرة

      البعض يقول يا ليت زمن اول يعود
      ونحن ايضا نقول ياليته يعود وخصوصا سترة المعروفة بالطيب والكرم وجمال الطبيعة سابقا
      لكن شنقول مو كل شئ نتمناه يصير
      اتذكر قليل من ايام الطفولة عين عبدان مثلا" اللي في الديرة كان الكل يروح ويسبح فيها من صغار وكبار..والأشجار والنخيل والأنهار اللي كانت تجري فيها مياه للسقي والشرب ووو الله يرحم ايام زمان
      والحين سترة اللي كانت من الطبيعة الخلابة صارت انواع التلوث فيها وفوق هذا سدو عنا جميع السواحل
      المشتكى لله نبي ترجع سترة كالسابق

    • فيلسوف | 2:29 ص

      شكرا لك

      شكرا لك يا ولد العنيسي على الاهتمام بمنطقتك وقريتك والاهم هو اهتمامك بابناء منطقتك من خلال التعبيرات المذكورة في عمودك .

اقرأ ايضاً