بحضور جماهيري كبير غصّت به القاعة الثقافية بالمنامة، تم تقديم العرض الثاني للمسرحية اللبنانية «.....»، وذلك في افتتاح «مهرجان ربيع الثقافة» لهذا العام.
المسرحية حملت اسما طويلا: «قدّام باب السفارة الليل كان طويل»... لتتناول قصة الاغتراب اللبناني الطويلة، والحلم بالخلاص من براثن الوطن بالتماس الهجرة إلى أي وطن آخر بديلٍ وبعيد... وليكن في أقصى أطراف الأرض، فالمهم أن ننجو من هذا الوطن الذي يعذّبنا صباح مساء!
هذه هي قصة المسرحية... وهي قصة اللبناني الذي يعيش الغربة أولا في بلده، والحالم بالخلاص عن طريق الهجرة. فالسفن قديما كانت تنقل طوابير طالبي الهجرة إلى سواحل إفريقيا الغربية وكندا وأميركا اللاتينية، من الفقراء والمضطهدين والبائسين، ممن لفظهم لبنان العشائر والطوائف. وفي الزمن الحديث فإن الطائرة الجاثمة في المطارات تنتظر طوابير المهاجرين الجدد. ما الذي تغيّر في لبنان الأحزاب؟
بالأمس... كانت العائلة تلملم ما تملك وتركب البحر، إلى بلد مجهول، لا تدري أين يسوقها القدر، وهل سترسو بها الباخرة على ساحل قرية إفريقية تحيطها الغابة من ثلاث جهات، أم على إحدى الجزر الضائعة في مياه المحيط. أما اليوم فلابد من الوقوف طويلا لتنتظر دورك في الطوابير الممتدة أمام باب السفارة الأجنبية للحصول على تأشيرة دخول.
وفي هذه الطوابير تنطلق الحوارات الساخنة التي تحكي عن بلد يفخر بأبوته لطوائفه الـ 17، كأنه مجمّع للمذاهب والطوائف والأديان، والذي تضيق صدور أهله عن بلوغ التعايش المشترك، ورغم أن الفرقاء يتفقون على كل شيء، ولكنهم يختلفون أيضا على كل شيء.
المسرحية تعالج مشكلة البلد الطارد لأبنائه، فبعد سبعين عاما من الاستقلال يعجز عن توفير الأمن والعدل والمساواة لجميع أبنائه، فيلوذ هؤلاء بحضن الطائفة التماسا للدفء والأمان المفتقد، وهذا هو سر عذابات لبنان. من هنا تأتي مشاهد المسرحية مشحونة بالحوارات بين أطراف المجتمع المنقسم على ذاته حتى الجنون، فيلجأ إلى أسهل الطرق للهروب من مواجهة المشكلة، بالهرب إلى الخارج. ولكلّ هارب من جحيم الوطن مبرّرٌ وسببٌ ومنطقٌ موزون. ففي أحد أكثر المشاهد درامية يسرد 12 ممثلا مبرراتهم، فمنهم من يريد أن يبني حياته كبقية خلق الله، أو يبني مستقبله، أو يواصل دراسته، ومنهم من يحلم بالزواج من فتاةٍ جميلة في البرازيل أو فنزويلا، فلا أجمل ولا أحسن من فتيات تلك المناطق الشقراوات. على أن أكثر أسباب الهجرة إيلاما هو الهجرة بعيدا إنما من أجل أن يحب لبنان أكثر، بينما البقاء في الوطن العاق لبنيه يولد الكراهية والصراعات والحروب.
آه... نسينا الخليج، ففي الطابور هناك من كان يحلم بالهجرة إلى الخليج... حيث النفط والمصارف وفرص العمل الواعدة والآبار المتدفقة بالثروة والدولارات التي تحتاج إلى من يغرفها من الشوارع غرفا. وهنا يتحوّل الممثلون إلى أداء رقصةٍ خليجيةٍ على إيقاع الناي والطبول، يتفاعل معها الجمهور فيصفق ويطيل التصفيق، بينما كان مستمعا للوصلات الغنائية القصيرة لفقرات غنائية لاتينية ترافق حلم الهجرة إلى العالم الجديد.
المسرحية باللهجة اللبنانية الدارجة، التي تستعصي بعض مفرداتها على سمع المشاهد البحريني بلا شك، لكن سيظلّ هذا المشاهد متابعا باهتمام لتفاصيل القصة في مجملها، فهي تتكلّم أيضا عن همومه وأشجانه في زمن التشرذم الطائفي الذي يعمّ الشرق هذه الأيام.
الكلّ إذا كان يحلم، والكلّ يعتقد بأن الحل الوحيد هو الهروب، فهذا بلدٌ مأزوم، لا يمكن أن يتصالح مع نفسه، فلا أحد يستمع لصوت الأم ومناشداتها لأبنائها للبقاء، فليس هناك - مهما تغرّبتم - أجمل من لبنان. ومع ذلك لا أحد يستمع لقلب الأم الحنون، فاللبناني في أعماقه مغامرٌ ومهاجرٌ يحب الترحال كالقبائل البدوية التي لا تستقر في مكان، ليس من القرن التاسع عشر، بل منذ أيام الفينيقيين وقرطاجنة ومغامرات هانيبال. والنتيجة أن واحدا من كل أربعة لبنانيين فقط يعيش داخل لبنان، والبقية حملت هم السفن والطائرات إلى المهاجر البعيدة في مختلف القارات... حتى ألقوا عصاهم في أستراليا أقصى الشرق. لا هم ملوا من الهجرة، ولا تعبوا من الانتظار أمام أبواب السفارات الأجنبية للحصول على «تأشيرة خروج من الوطن»!
العدد 2379 - الأربعاء 11 مارس 2009م الموافق 14 ربيع الاول 1430هـ