على هامش تفسير الجابري للقرآن الكريم طرحت على بساط البحث مسألة تنوع التفاسير واختلافها في القراءة والمنهج والرؤية والمقاصد. فالتفاسير ليست متوافقة عموماً إلا في إطار القضايا الكبرى والمبدئية، وهي في مجموعها تعكس ظروف المكان والزمان وحدود التطور الذي بلغه الإنسان في هذا القرن أو ذاك.
لذلك تنوعت التفاسير واختلفت في أسلوب التعامل مع الآيات وطرق التعاطي مع السور القرآنية وترتيبها. فهناك فقهاء اعتمدوا على اللغة لتوضيح المجمل من الآيات. وهناك علماء اتبعوا تسلسل الآيات واحدة بعد أخرى في إطار مستقل عن وحدة الكتاب. وهناك من اعتمد على النسخ، وهناك من رفضه معتبراً أن كل الآيات منزلة ولابد من أخذ القرآن وحدة كلية لا يجوز التفريط بكلمة واحدة وردت فيه.
إلى اختلاف الرؤية تنوعت وسائل مناهج القراءة بين تيار اعتمد ظاهر القرآن وتيار غاص في التأويل والاستبطان وذهب بعيداً في الشرح إلى درجة وصلت في غموضها إلى مستوى غير قابل للفهم من العامة. وترافق منهج «الألغاز» مع نمط آخر من التفاسير اعتمد قاعدة الاستنباط والمقارنة بالقياس ونمط مضاد لجأ إلى رفض القياس معتمداً على الرأي والاستقراء والاجتهاد.
هذا التعدد له ما يبرره. فهو أساساً جاء للرد على حاجات الناس واختلاف ظروفها المكانية والزمانية وما تتطلبه العامة من قراءة تتناسب مع جيلها. الجيل الأول كان أكثر التصاقاً بروح الدعوة، وبسبب قربه من صحابة الرسول (ص) كان يتمتع بقدرة على الفهم ولا يحتاج إلى توضيحات للآيات التي كان بإمكانه حفظها ومعرفة مقاصدها من دون شرح أو تفسير. بعد الجيل الأول أخذت الحاجة تضغط على الفقهاء والعلماء لشرح معاني القرآن لغوياً حتى يستطيع الجيل الثاني معرفة أبعادها ومقاصدها. وازدادت المشكلة مع الجيل الثالث وأخذت تتوسع مع الجيل الرابع ما اقتضى تلبية الحاجة والقيام بمهمة شرح كل القرآن وتفسيره حتى لا يكون مستعصياً على الفهم من العامة.
هكذا أخذت مسألة التفاسير تتحول جيلاً بعد جيل إلى مهمة عقائدية تتطلب من العلماء والفقهاء بذل الجهد حتى تكون آيات القرآن غير غامضة ومفهومة من كل الناس. وبسبب ضغوط الحاجة وضرورة استمرار التواصل بين الأئمة والمؤمنين نهضت مدارس فقهية على أساس قواعد اختلاف التفسير بين جيل وآخر، ما أدى إلى تكوين اجتهادات نشطت في هذا المضمار الأصولي في تعامله مع أسباب النزول وترابط الآيات وتعارضها أحياناً وتطابقها أحياناً أخرى.
ساهم الاختلاف في تشكيل مناهج بحثية وأدوات تحليل وتركيب ليست متجانسة في تفسير آيات القرآن، ولكنها في المجمل العام لعبت دورها في إبقاء الكتاب مادة حيوية وغير جافة ومفهومة على مرّ تعاقب الأجيال وتتابع الزمن. لذلك لم يعرف الإسلام تاريخياً تلك التفاسير العامة والكبرى والكلية في المئة سنة الأولى لأن الصحابة وأصحاب الصحابة والتابعين تكفلوا في مهمة شرح القرآن وتفسيره مباشرة للعامة من دون حاجة للتدوين. بعد القرن الهجري الأول أخذت الحاجة تضغط على الأئمة والفقهاء والعلماء والقضاة لتلبية طلبات الناس بتوضيح الغامض من الآيات والملتبس على فهم معانيها ومقاصدها. ولهذا السبب المكاني والزماني واختلاف الجغرافيا وتعاقب الأجيال ونمو دعوة الإسلام وانتشارها في مشرق العالم ومغربه مضافاً إليها تطور المجتمع وتقدم الإنسان المعرفي والعلمي، بدأت التفاسير الكبرى والعامة والكلية تظهر تباعاً في موسوعات تغطي ما هو مطلوب فهمه من الكتاب الكريم.
التفاسير لم تنقطع منذ القرن الهجري الثاني. وهي تطورت وتنوعت وتعددت وذلك بحسب مقتضيات ظروف الزمان وخصائص المكان ومدى ابتعاد الفقيه والعالم عن وقت نزول الدعوة وبداياتها الأولى. وما قام به الجابري في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين (الخامس عشر للهجرة) ليس فريد عصره ويومه وإنما المهمة التي نفذها كانت مختلفة في أسلوب تعاملها مع الآيات وترتيبها. وبهذا المعنى يختلف تفسير «المنار» الذي ظهر في مطلع القرن العشرين أو تفسير سيد قطب (في ظلال القرآن) الذي خرج للنور في ستينيات القرن الماضي عن الجابري.
التفاسير كثيرة وتتطلب فعلاً معجماً يفهرس تتابعها وتعاقبها منذ نهاية القرن الهجري الأول حتى الآن. وأهمية القاموس تكمن في أنه يضبط تاريخياً ظهور تلك التفاسير وحدود توافقها وأسباب اختلافها وتنوع مصادرها ومراجعها وأدواتها المنهجية ومعانيها ومقاصدها.
تفسير الجابري «الواضح» كما أطلق عليه يأتي في سياق تاريخي وحلقة في سلسلة طويلة لم تنقطع منذ أن تم جمع الأحاديث في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز وصولاً إلى كتابه السيرة النبوية للمرة الأولى (ابن اسحق) في عهد الخليفة العباسي أبوجعفر المنصور. ولتوضيح الصورة عن الكلام المذكور لابد من تقديم عينة رمزية ومختصرة عن أهم وأبرز التفاسير التي ظهرت في القرون التسعة الأولى من تاريخ الإسلام. وهذه العينة المختارة تعطي فكرة عن ما تحتويه المكتبة الإسلامية من تراث هائل يحتاج فعلاً إلى قراءة معاصرة تستخلص منه الدروس والعبر من جانب وتكتشف منه أسباب الاختلاف بين الأئمة من جانب آخر.
قبل أن تظهر التفاسير الموسوعية كان العلماء والفقهاء والأئمة في المدينة والكوفة ودمشق يعتمدون على رواة الحديث والشعر وعلم الأنساب والنحو واللغة والأمثلة والحكم في إصدار الفتاوى. وتشكلت من هذه الفروع مجموعة روافد أخذت تتجمع لتشكيل قواعد فقهية للاجتهاد انطلاقاً من القياس أو الأخذ بالحديث أو المقارنة أو بالعودة إلى الكتب السماوية الأخرى (التوراة والإنجيل) لتوضيح أو شرح الغامض من الآيات وخصوصاً قصص الرسل والأنبياء.
بسبب التراكم الذي تولد أصلاً عن حاجة الأجيال للفهم ظهر أول كتاب حمل اسم «التفسير» لشيخ المعتزلة في زمنه عمرو بن عبيد (أبو عثمان) الذي ولد في بلخ وعاش في البصرة وتوفي في العام 144هـ (761م) في زمن المنصور. وجاء الكتاب الثاني في حقل التفسير لمقاتل بن سليمان (أبو الحسن البلخي) الذي عاش في البصرة وتوفي في العام 150هـ (767م) بعد أن كتب «التفسير الكبير». وظهرت في النصف الأول من القرن الثالث للهجرة مجموعة كتب تشرح معاني القرآن الكريم وتوضح الغريب في الحديث، فكتب قُطْرُب (أبوعلي) وهو لغوي ومفسر عاش في البصرة وتوفي في العام 206هـ (821م) عن «معاني القرآن» و»غريب الحديث»، وكتب الفَرّاء (أبوزكريا يحيى الدَّيلمي) وهو إمام لغوي عاش في الكوفة وتوفي في طريقه إلى مكة في العام 207هـ (822م) أيضاً عن «معاني القرآن»، وكتب معمر بن المُثَنّى (أبوعبيدة) وهو عالم باللغة من البصرة توفي في العام 208هـ (823م) عن «مجاز القرآن» في التفسير.
جاءت هذه الخطوات التمهيدية في سياق تحولات كبرى شهدها تاريخ الإسلام بعد أن ظهرت المذاهب الفقهية وتأسست في إطاراتها العامة اجتهادات حاولت شرح اختلاف الطرق بالاستناد إلى كتب الحديث وكتب الصحاح والمعاجم والطبقات والتواريخ. وأدت هذه المتغيرات إلى إطلاق سلسلة من المدارس التي تنافست على تفسير القرآن وتوضيح المبهم من آياته، وظهر في هذه الحقبة المؤرخ والمفسر والفقيه الطبري (أبوجعفر محمد بن جرير) الذي حاول تكوين مذهب خاص به وفشل. ولد الطبري في طبرستان وعاش في بغداد وتوفي فيها العام 310هـ (923م) تاركاً موسوعة في التاريخ وموسوعة في التفسير (جامع البيان في تفسير القرآن) في مطلع القرن الرابع للهجرة. وجاء بعده ابن الخياط (أبوبكر محمد) من سمرقند ودرس في بغداد وكتب «معاني القرآن» وشرح نحوياً المبهم من آياته وتوفي في العام 320هـ (932م). بعده جاء الماتُريدي (أبومنصور محمد) وهو من كبار علماء الكلام والأصول على المذهب الحنفي وكتب «تأويلات أهل السنة في تفسير القرآن» وعاش في سمرقند وتوفي فيها العام 333هـ (944م). وجاء في نهاية القرن الهجري الرابع من يشرح القرآن ويعربه نحوياً ليستنتج من اللغة قراءة هي أقرب إلى التفسير. وبرز ابن خالويه (الحسين) الذي ولد في همدان ودرس في بغداد وعاش في حلب زمن الدولة الحمدانية في هذا المجال، وله كتاب بعنوان «إعراب ثلاثين سورة من القرآن». وفي مطلع القرن الخامس للهجرة كتب ابن فُورك (أبوبكر محمد) الذي درس في البصرة وبغداد وبنى مدرسة في نيسابور وتوفي فيها العام 406هـ (1015م) في «علم التوحيد» وبحث أيضاً في مسألة «مشكل الحديث وغريبه» بقصد توضيح الغامض في التفاسير. وجاء عبدالقاهر بن طاهر البغدادي (أبومنصور) الذي نشأ في بغداد ورحل إلى خراسان ومات فيها العام 429هـ/ 1038م ليشرح «أصول الدين» إلى جانب كتاب آخر حمل عنوان «تفسير القرآن». وكتب الماوردي (أبوالحسن) الذي وُلد في البصرة وتوفي في بغداد العام 450هـ/ 1058م عن «أعلام النبوة» وشرح في كتابه «الحاوي» ما ظهر من اجتهادات فقهية واختلافات في تفسير القرآن. وكتب القُضاعي (أبوعبدالله محمد) الذي أرسل في سفارة إلى الروم وتولى القضاء في مصر وتوفي فيها العام 454هـ/ 1062م مؤلفه المعروف عن «تفسير القرآن». وكتب ابن حزم الأندلسي الظاهري الذي وُلد في قرطبة وتوفي العام 456هـ/ 1064م عن «الإحكام في أصول الأحكام» وهو تفسير فقهي للقرآن. وكتب القشيري (أبوالقاسم عبدالكريم) الذي أقام في نيسابور في عهد السلطان ألب أرسلان السلجوقي وتوفي فيها العام 465هـ (1072م) مؤلفه الذي حمل عنوان «التفسير الكبير». وكتب أبوالوليد الباجي (سليمان بن خلف) الذي ولد ومات في الأندلس العام 474هـ (1081م) شروحه لكتاب «الموطأ» في «المنتقى» وأردفه بكتاب «الإشارة» جمع فيه بين الأصول الفقهية وتفسير القرآن.
على المنوال نفسه كتب الغزالي (أبوحامد) الذي ولد في طوس وتوفي فيها العام 505هـ/ 1111م عمله الكبير «إحياء علوم الدين». وجاء الزمخشري (أبوالقاسم محمود) الذي ولد في زمخشر وتوفي في الجرجانية في العام 538هـ/ 1144م ليضع كتابه الأول «الفائق» في غريب الحديث والثاني عن «الكشاف» في تفسير القرآن. وكتب الطبَّرسي (أبوعلي) الذي توفي العام 548هـ/ 1153م تفسيره الكبير تحت عنوان «مجمع البيان في تفسير القرآن» وهو يعتبر الأشهر على المذهب الشيعي. وكتب ابن ظفر (محمد) الذي ولد في صقلية واستقر في حماة وتوفي فيها العام 565هـ/ 1170م عن «ينبوع الحياة» في تفسير القرآن. وقبل نهاية القرن السادس للهجرة كتب قاضي خان (فخرالدين حسن الفرَغانيّ) الذي توفي في العام 592هـ (1196م) عن أدب القضاة إلى جانب مؤلف حمل عنوان «الفتاوى» الذي يجمع الفقه إلى التفسير.
عرف القرن السابع الهجري سلسلة أعمال جمعت بين الفقه والتفسير فجاء مصنف الآمدي (سيف الدين) الذي توفي في دمشق العام 631هـ (1233م) عن «الإحكام في أصول الأحكام» في هذا الإطار إلى جانب أعمال ابن الصَّلاح (أبوعَمرو تقي الدين عثمان) الذي توفي أيضاً في دمشق العام 643هـ/ 1245م الذي كتب عن «أنواع علم الحديث» و«الفتاوى» في التفسير. وكتب القرطبي (محمد بن أحمد الأنصاري) تفسيره الكبير الذي يعرف بتفسير القرطبي ليشكل خطوة مهمة في هذا الحقل بعد تفسير الطبري.
توفي القرطبي في العام 671هـ (1273م) قبل رحيل القونويّ (صدرالدين الرومي) في العام 673هـ/ 1275م الذي ولد في قونيه وتوفي فيها وكتب عن «إعجاز البيان في تفسير أم القرآن» وفيه يشرح معاني الفاتحة ودلالاتها. وفي نهاية القرن السابع الهجري كتب ابن الساعاتي (أحمد) الذي ولد في بعلبك وتوفي في بغداد العام 694هـ/ 1295م مؤلفه المهم في الأصول والتفسير حمل عنوان «نهاية الوصول إلى علم الأصول». وكتب اللغوي الأندلسي أبوحيان الغرناطي الذي توفي في القاهرة العام 743هـ (1344م) ما عُرف بـ «البحر المحيط» في تفسير القرآن. وعلى المنوال نفسه كتب اللغوي والفقيه المصري ابن مكتوم (أحمد) الذي توفي في 747هـ/ 1348م «الدر اللقيط من البحر المحيط» في تفسير القرآن.
في القرن التاسع كتب العراقي (عبدالرحيم الحافظ) الذي ولد في شمال العراق واستقر في مصر وتوفي فيها العام 806هـ/ 1404م «الألفية» في غريب القرآن، و«الألفية» في مصطلح الحديث. وكتب ابن الهُمام (كمال الدين محمد) الذي توفي في مصر العام 861هـ/ 1457م كتاب «التحرير» في فقه الأصول والتفسير. وجاء المحلي (جلال الدين محمد) الذي ولد في المحلة الكبرى وتوفي في القاهرة العام 864هـ/ 1459م وكتب «تفسير القرآن» وتوفي قبل الانتهاء منه فأكمله جلال الدين السيوطي (المؤرخ) فعرف الكتاب بـ «تفسير الجلالين».
بعد تفسير الجلالين تطور العلم منذ نهاية القرن التاسع وأخذ نواحي مختلفة معتمداً على كتب الصحاح والحديث وفتاوى الأئمة والفقهاء وموسوعات اللغة والتواريخ والفقه والأصول والفروع وطبقات المذاهب والقضاة إلى أن بلغت المؤلفات في هذا الحقل عشرات المئات. فهناك بعض المفسرين اكتفى بشرح آية أو آيتين أو ثلاث آيات، وهناك بعض المفسرين قام بتوضيح معاني سور محددة اختارها من الكتاب الكريم، وهناك بعض من فسّر كل القرآن في موسوعات جامعة وشاملة وكلية من الآية الأولى كما وردت في الكتاب إلى الآية الأخيرة.
تفسير الجابري لاشك ليس الفريد من نوعه ولكن الجديد فيه أنه قرأ الكتاب وفق التسلسل الزمني للتنزيل ما أعطى قيمة مضافة للتاريخ وتطور الدعوة وصلتها بالسيرة النبوية. وعمل الجابري الذي انتهى منه قبل رحيله يشكل خطوة تحتاج بدورها إلى متابعة في هذا المضمار حتى لا يضيع الجهد هباءً وتتراكم التفسيرات من دون أن تحاط بالاهتمام والضبط في قاموس يوضح الفروقات والاختلاف تحت سقف الحرص على المقارنة لضمان وحدة المفسرين ومنعاً للتكرار. فالتفسير الجامع يحتاج إلى لجنة من العلماء عارفة بهذا الحقل وقادرة على فهرسة الأعمال ضمن جدول زمني يأخذ في الاعتبار اختلاف ظروف المكان والزمان وتعاقب الأجيال وتطور حياة البشر وتقدم علوم الإنسان عن تلك الحقبات الأولى التي شهدت هبوط الدعوة وانتشار الإسلام من المشرق إلى المغرب.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2799 - الأربعاء 05 مايو 2010م الموافق 20 جمادى الأولى 1431هـ