أشارت الباحثة والأستاذة الأكاديمية بجامعة البحرين ضياء الكعبي إلى أن السيرة الشعبيّة العربيّة تمثل نصا ثقافيا منفتحاً على مختلف ما أنتجه الإنسان العربيّ في تاريخه في شتى السياقات الحضارية والثقافيّة وللذات العربيّة في مختلف بناها الذهنيّة والفكرية، كما تمثلُ مجالاً للبحث عن المتخيّل العربيّ الإسلاميّ بوصفه خزاناً رمزياً مؤسساً لأنساق ثقافية فاعلة شكّلت النظرة إلى الذات والآخر في الثقافة العربيّة الإسلاميّة.
جاء ذلك ضمن محاضرتها في جمعية الشعر الشعبي ضمن برنامج جمعية الأدب الإسلامي البحرينية الثقافية، احتضنتها الجمعية حيث ألقت الباحثة والناقدة ضياء الكعبي محاضرة عن «الذات والآخر في السيرة الشعبية العربية دراسة في التمثيلات الثقافيّة» وذلك مساء الأحد الخامس والعشرين من شهر أبريل/ نيسان، وقد قدم اللقاء أستاذ النقد والأدب الأكاديمي صلاح مصيلحي وحضر الأمسية عدد من الأساتذة الجامعيين ومجموعة من المثقفين ومن أعضاء الجمعية وأحباء اللغة العربية والأدب الشعبي الذين عقبوا على المحاضرة بالأسئلة والمداخلات الإثرائية.
في بداية محاضرتها أشارت الكعبي إلى أن السير الشعبيّة العربيّة من خلال أرشيفها الضخم وضخامة متونها التي تصل إلى آلاف الصفحات هي أحد المكونات الرئيسية للسرد العربيّ القديم على الرغم من تهميشها وتغييبها نقديًا في الموروث النقديّ والبلاغيّ، وعلى الرغم من هذا التغييب كان حضورها بارزاً وكبيراً عند المتلقين على اختلاف طبقاتهم وطوائفهم كما استمرت تحولاتها بين الدوائر الشفاهيّة والكتابيّة واستمر «تعالقها» و»انفتاحها» النصيّ الثقافيّ مع أنواع سردية عدة وعلى مكونات الثقافة العربيّة الإسلاميّة مثل: المرويات الدينيّة والمصنفات التاريخيّة وكتب الجغرافيا ووصف الأرض والمسالك والممالك والإسرائيليات والقصص العجائبيّ وغيرها إلى جانب موروثات الأمم الأخرى (مثل: الروم والفرس والحبشة وغيرهم). وقد أنتجت المرويات الشعبية «تاريخها الثقافي» الذي يمتدُ ويغطي جانبًا كبيراً من العصور الإسلاميّة ولتواريخ الأمم والشعوب الأخرى وخاصة الروم والحروب الصليبية، والذي يفترق كذلك في متخيّله الرمزيّ وفي تحبيكه السرديّ عن مصنفات التاريخ الرسميّة.
وتساءلت الكعبي خلال ورقتها: ما تمثيلات الذات والآخر في هذه السير الشعبية وما موقع هذه التمثيلات في سياق الثقافة العربيّة الإسلاميّة؟ وللإجابة عن إشكالية البحث الكبرى تنتظم الدراسة في مطلبين: المطلب الأول مطلب تأصيليّ نقديّ يتغيا الحفر في مصطلحات البحث الرئيسة مثل: «الذات» و»الآخر» و»التمثيلات الثقافيّة» من خلال المرجعيات الفلسفيّة ونظريات علم النفس والاستعانة كذلك بالدراسات الثقافيّة Cultural Studies والنقد الثقافيّ Cultural Criticism. أمّا المطلب الآخر للدراسة فيتمثل في استقصاء تجليات التمثيلات الثقافية للذات والآخر في السير الشعبيّة العربيّة موضع الدرس من خلال استحضار العلاقة بين هذه المرويات السيرية والتاريخ والتحبيك السردي.
أشارت الكعبي إلى أن الذات subject كمصطلح استخدم في مقابل الآخر. والذات تتضمن معنى النفس، إنها تشمل الأفكار الواعية وغير الواعية والعواطف التي تشكل معنى من نحن وكل المشاعر التي جلبت إلى مواضع مختلفة من خلال الثقافة. إننا نجرب ذاتيتنا من خلال السياق الاجتماعي حيث اللغة والثقافة يعطيان المعنى لخبرتنا بذواتنا وحيث تبنى الهوية». وتبعاً لذلك فإنه لا توجد هوة بين الذات والموضوع من حيث المبدأ، ويقوم تفاعلهما على أساس الممارسة التاريخية الاجتماعية للإنسان. وهي وحدها التي تعطي مفتاحاً إلى النشاط المعرفي للذات. وهذا يعني أن الإنسان لا يصبح ذاتاً إلا في التاريخ وفي المجتمع، ولهذا السبب فهو ليس فرداً مجرداً، وإنما هو موجود اجتماعي كل قدراته وإمكانياته تشكلها الممارسة. ووجود الذات مقترن بالآخر وهو مصطلح يمكن تتبع دلالاته من خلال كتابات هيغل وجاك لاكان وجان بول سارتر وجاك دريدا وميشيل فوكو وإدوارد سعيد.
وعن الآخر أضافت الكعبي أمّا الآخر في أبسط صوره هو مثيل أو نقيض «الذات» أو «الأنا»، وقد ساد بوصفه مصطلحاً في دراسات الخطاب، سواء الاستعماري (الكولونيالي) أو ما بعد الاستعماري في أطروحات النقد النسوي والدراسات الثقافية والاستشراق. وقد شاع المصطلح The Other في الفلسفة الفرنسية المعاصرة وخاصة عند جان بول سارتر، وميشيل فوكو، وجاك لاكان، وإيمانويل ليفيناس وغيرهم. ورغم سيولة المصطلح وصعوبة بلورة معالمه بوضوح إلا أنه «تصنيف» استبعادي يقتضي إقصاء كل ما لا ينتمي إلى نظام فرد أو جماعة أو مؤسسة، سواء كان النظام قيماً اجتماعية أو أخلاقية أو سياسية أو ثقافية، ولهذا فهو مفهوم مهم في آليات الايديولوجيا. ولعلّ سمة «الآخر» المائزة هي تجسيده ليس فقط لكل ما هو غريب «غير مألوف» أو ما هو «غيري» بالنسبة للذات أو الثقافة ككل، بل أيضاً لكل ما يهدد الوحدة والصفاء. وبهذه الخصائص امتد مفهوم «الغيرية» هذا إلى فضاءات مختلفة، مثل التحليل النفسي والفلسفة الوجودية والظاهراتية وآليات تحليل الخطاب الاستعماري والنقد النسوي والدراسات الثقافية.
وحول مفهوم الآخر أيضاً أضافت الكعبي بأن مفهوم الآخر يجد توظيفاته في فضاءات متعددة لعلّ أهمها الأيديولوجيا والخطاب النسوي والخطاب الاجتماعي. ولعلّ أهم من وظف هذا المفهوم إضافة إلى إدوارد سعيد هو لوي ألتوسير وهومي بهابها وغاياتري سبيفاك. كما لا شك أنَّ كثيراً من الباحثين العرب بدأوا في توظيفه لكشف تحيزات الخطاب وخاصة الاستعماري وما بعد الاستعماري وفي مقاربتهم للغرب. ويرى المعنيون بأمر المصطلح أن معناه يقوم على ثلاثة محاور كبرى:
أولاً: الآخر في أكثر معانيه شيوعاً يعني شخصاً آخر أو مجموعة مغايرة من البشر ذات هوية موحدة، وبالمقارنة مع ذاك الشخص أو المجموعة أستطيع أو نستطيع تحديد اختلافي أو اختلافنا عنها. وفي مثل هذه الضدية ينطوي هذا التحديد على التقليل من قيمة الآخر، وإعلاء قيمة الذات أو الهوية. ويشيع مثل هذا الطرح في تقابل الثقافات خاصة، وهذا ما يسود عادة في الخطاب الاستعماري.
ثانيا: أماّ الآخر «المشهدي» فلا يختلف عن الأول إلا في حالة الذات وتبلورها في مرحلة المرآة عند جاك لاكان؛ فالطفل في مرحلة النمو يحاول دائماً تحقيق صورته المثالية المنعكسة في المرآة في كل مكتمل والسيطرة على جسده. لكنّ لهذا المشهد أثراً تغريبياً إذ إن السيطرة محالة، وبالتالي فإن لهذه الغيرية جانبها التهديدي في صورة الآخر المثيل. ويجد مثل هذا الآخر توظيفه في النقد النسوي والتحديق ونظرية الفيلم بل وحتى الإعلانات التجارية المرئية.
ثالثاً: الآخر الرمزي، وهو عند لاكان وغيره من المفكرين الفرنسيين الآخر بامتياز حيث يرون جميعاً أن «كينونة» المرء لا تتحقق إلا من خلال القدرة على القول لكن هذه القدرة تعتمد على استخدامك نظاماً تمثيلياً (اللغة) يسبق وجودك. وهكذا فإن عرضك لأفكارك الذاتية والكيفية التي بها تمثل ذاتك تتأتى فقط من خلال اللغة التي تسبق دائماً وجودك، وعليه فإنك حال نطقك تكون أصلاً «منطوقا» أو «مكتوبا» مسبقاً. وهذا الوضع يجعل «الوعي» الذاتي نفسه مخترقاً من الخارج، أي أن الذاتية النقية ليست نقية لأن الآخر الغريب قد دخل مسبقا بنيتها. وهذا ما نراه في الفلسفة الوجودية وفلسفة ما بعد البنيوية.
وتوقفت الكعبي مع التمثيلات الثقافية فأشارت إلى أنه من المصطلحات التي لابد من تحديد دلالتها لضبطها مصطلح «التمثيل الثقافي» الوارد في عنوان الدراسة. وهو مصطلح بيني يتعالق ويتقاطع مع حقول معرفية عدة؛ فالتمثيل وفقاً لفوكو ليس مجرد موضوع للعلوم الإنسانية بل هو ميدان العلوم الإنسانية بكل امتدادها. إنه الأساس العام لهذا النوع من المعرفة وهو الذي يجعل هذه المعرفة ممكنة. والعلامة كما يذكر C.S.Peirce لا تحيل مباشرة على المرجع وإنما على الأفكار المتصلة به. ويقوم «التمثيل» بوظيفة التعبير المتواصل؛ إذ ينتج كل تعبير فكرة عما يقوم بتمثيله. ولا يتحدد التمثيل الثقافي بالنص السردي فقط؛ فهو يعيد تشكيل العوالم والمرجعيات الثقافية والاجتماعية والأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية. وتتناظر بذلك العوالم النصية المتخيلة بالعوالم المرجعية المتحددة فتتحدد وظيفة التمثيل. ويتجاوز التمثيل في النقد الثقافي cultural criticism مفاهيم المحاكاة والانعكاس والوهم والتخييل وفعل الترميز كما عبرت عنها المفاهيم النقدية التقليدية. ويؤدي هذا التجاوز إلى قراءة النصوص وتأويل شفراتها الثقافية cultural codes في سياق الشعريات الثقافية cultural poetics.
ولتوضيح المفهوم الشعبي توقفت الكعبي في بحث عن «تاريخ الهامشيين» لجان كلود شميت Jean Clude Schemit الذي يسائل تاريخاً رسمياً «وأدبا عالمياً» مركزياً لسير السلالات الحاكمة الأوروبيّة والسجلات المكتوبة لتواريخ الكنيسة ورجالاتها. وهو ما شكّل ثقافة المركز في حين غُيِّبت وأُقصيت ثقافة الهوامش لأنّها لا تندرج في أنساق ثقافات المتون الرسميّة. ولعلّ هذا التغييب هو ما يجعل الشعوب والجماعات تنتج مروياتها الكبرى السرديّة التي تنتج هي الأخرى تمثيلات ثقافيّة رمزيّة من أجل الدفاع عن هويتها وفبركة أو تلفيق «تاريخ خاص بها» في معظم الأحيان. إنّ المرويات الكبرى هي إحدى الطرائق المركزيّة التي يتشكل ويتضح بها المخيال الاجتماعيّ لشعب ما. والمرويات الكبرى «كبرى» لأنّ ما ترويه هو عمل المخيال الاجتماعيّ نفسه. والتاريخ في تعالقه وتقاطعه مع الهويات المختلفة والمحبوكة من منظور ما بعد الحداثة كان مجالاًً لاشتغال عدد كبير من المنظرين والنقاد والفلاسفة والمؤرخين مثل: «ليفي شتراوس ورولان بارت وميشيل فوكو وجاك دريدا وجيل دولوز وبول ريكور وهايدن وايت وإدوارد سعيد وهومي بابا وليندا هاتشيون ومارتن برنال وكيث وايتلام وتودوروف في «فتح أميركا» فضلاً عن اشتغالات التاريخ الجديد بالاهتمام بتواريخ المهمشين.
وتابعت الكعبي تخلق الأمم والشعوب والجماعات تاريخها الخاص القائم على تأويلها الذاتي للذاكرة والتاريخ إذ لا تصبح الذاكرة «فردية» وإنما تصبح «ذاكرة جماعية» مشتركة من خلال التحبيك السردي. وهذا التحبيك هو في المقابل ما يدعم هويتها هو ما يكون «الهوية السردية» narrative identity بحسب تعبير بول ريكور وبحسب إدوارد سعيد فإنّ «الهوية القومية متورطة باستمرار في السرد؛ سرد ماضي الأمة وسرد أجدادها المؤسسين وسرد الوثائق والوقائع الأصلية وهو ما يجعل وجود الهوية مرهوناً بوجود تحبيكها أو سردها الثقافي الخاص وهذا ما يستوحى من عنوان الكتاب الذي حرره هومي بابا عن الأمة والسرد Nation and Narration حيث تكون الأمة هي عين السردية التي كوّنتها عن نفسها وعن تاريخها الذي تتموضع داخله بحيث لا يكون لها من معنى إلا من خلال هذا التموضع.
وبحسب بول ريكور فإن السرد يكوِّن الهوية ويعيد صياغتها بالطريقة ذاتها التي يقوم فيها «التحبيك» بتشكيل التاريخ وإعادة صياغته ومن هذا المنظور فالهوية سردية لأن السرد يجمع عناصر الهوية المتنافرة والمتباينة في وحدة منسجمة وذات حبكة مترابطة أيضاً. وهي سردية لأن كل هذه العناصر المؤلفة للهوية اجتمعت هكذا لا بحكم الضرورة - لا المنطقية ولا الطبيعية - وإنما بحكم المصادفة والاتفاق الضمني بين الجماعات. فهذه عناصر مختلفة وربما متعارضة أو غير موجودة أساساً وإنما جرى اختلاقها بحكم حاجة الناس إلى «تخيل» أنفسهم كـ «أمة» لها حكايتها وسياقها التاريخي والثقافي الخاص.
وأشارت الكعبي في ورقتها إلى أنها ستسائل المرويات السيرية الشعبية وما انطوت عليه من تحبيك سردي ثقافي وما انطوت عليه من قيم وأنساق ومضامين. ولا سيما أنها أُنتجت وتشكلت في سياقات سياسية وحضارية لها خصوصيتها. والعصر المملوكي هو العصر الذي شهد تشكل السير الشعبية العربية المدوَّنة عرف اهتزازات وتحولات حضارية وسياسية كبرى حوّلت العربي من حاكم لنفسه إلى محكوم خاضع لغيره ونتيجة لذلك أنتجت الجماعة الشعبية سيرها لتجسد من خلالها أحلامها حول البطل المخلص وكثر حديث الباحثين العرب المحدثين في حقل السير الشعبية عن مفهوم البطولة في السير الشعبية العربية.
وفي المجال التطبيقي لورقتها تحدثت الكعبي عن الغجر وسيرة الزير سالم، إذ رصدت الآخر القريب في السير الشعبية العربية فأشارت إلى أن الجماعات تختلق تاريخها الخاص بها الذي قد يكون منسوجاً نسجاً رمزياً كما يذكر كورنيليوس كاستورياديس؛ فقد صنعت جماعات الغجر في مصر تاريخاً ونسباً أسطورياً مُختلقاً تتحايل به على أنساق تهميشها ونبذها فبالنسبة لرواة سيرة الزير سالم من الغجر فإنهم يدعون أنهم أخلاف جسّاس بن مرة الذين حكم عليهم المهلهل بن ربيعة والزير سالم بالتشتت والفرقة. وفي بحثه الطريف عن «الغجر وسيرة الزير سالم» أشار المستشرق الإيطالي جيوفاني كانوفا إلى بعض التعليلات الأسطورية الطريفة لتسمية الغجر بـ «النور» و»الجمسة» و»الحلب» ويأتي هذا كلّه للخروج من أنساق التهميش المحرمة على الجماعة في سبيل الاعتراف بانتمائها إلى الجماعات الكبرى المركزية، ولو كان هذا الانتماء باختلاق أنساب أسطورية .
العدد 2799 - الأربعاء 05 مايو 2010م الموافق 20 جمادى الأولى 1431هـ