العدد 2378 - الثلثاء 10 مارس 2009م الموافق 13 ربيع الاول 1430هـ

نفّاثات الجمبزة!

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في الصفحة قبل الأخيرة من «التفسير المبين»، لأستاذنا وشيخنا الراحل الكبير محمد جواد مغنية، رحمه الله، يفسّر معاني سورة الفلق، بقوله: «أعتصم وأستجير من كلّ شر، سواء كان طبيعيا كالزلازل والصواعق؛ أو من حشرةٍ سامة، كلدغ العقرب أو لسع الحية؛ أم فعل الأشرار، كالحقد والعدوان والطغيان؛ أم من سوء اختيار المستجير نفسه، من العجب والغرور».

وفي تفسيره للآية الرابعة «ومن شرّ النفاثات في العقد»، يقول رحمه الله: «ليس المراد بالنفاثات جماعات السحرة كما قيل، بل المراد كل مشعوذٍ محتال، سواء أنفخ في العقد مدعيا تسخير الجن أم لم ينفث. وخصّ سبحانه النفث بالذكر لأنه مظهرٌ من مظاهر التدليس والتلبيس».

التدليس والتلبيس هما من أشد المشكلات التي نعاني منها هذه الأيام، خصوصا عندما يُفسّر البعض محاولات الحدّ من الحريات الصحافية، والتضييق على حرية التعبير، ومصادرة الحقوق الدستورية للمواطن في التعبير عن آرائه بحرية... على أنه دليلٌ على تقدّمنا نحو بناء دولة القانون والمؤسسات.

ليس هناك تدليسٌ وتلبيسٌ أشد ظهورا وانفضاحا من هذه الكتابات التي تحرّف الحقائق، وتشوّه الأمور، وتجاهر بالغضب من الصحافة عندما تدافع عن حقوق منتسبيها في ممارسة عملهم بمهنية وضمير، خدمة لهذا الشعب الكريم وقضاياه.

على الصحافة بعد اليوم أن تعود للرقابة الذاتية، وإعادة المقصّ لتقليص هذا الهامش من الحرية الذي تتمتع به صحافة البحرين. على الصحافي أن يفكّر بعد اليوم ألف مرةٍ قبل أن ينتقد تصرفا خاطئا، أو يكشف تمييزا فاضحا يسئ إلى الدولة وأجهزتها وسمعتها. فالمطلوب تعميم قانونٍ ينصّ على عصمةِ كلّ من يعمل في أجهزة الدولة، وأي نقدٍ سيعتبر إساءة شخصية للموظف العام تستدعي المثول أمام المحكمة والخضوع لقانون العقوبات.

كانت حصيلة الأعوام الستة الماضية رفع 55 قضية ضد الصحافيين والكتاب، أغلبها بسبب نشر آراء، قابلة للرد والنقض والتفنيد والتخطئة أيضا. ولكنها لم تكن تهدّد أمن الوطن ولا تدعو إلى إحداث فوضى، وإنّما أكثرها توجه الضوء لجوانب النقص والقصور في بلدنا ووزاراتنا ومؤسساتنا... بغية الإصلاح. وخطورة القضايا الأخيرة التي استهللنا بها العام الجديد، أنها تنذر بحدوث ردّةٍ إلى الوراء، من شأنها تقليص هذا الهامش من حرية التعبير.

من حقّ الصحافي أو الكاتب أن يختار موقفه، «قريبا من رأس السلطة أو من قدمها»، كما يقول محمد حسنين هيكل، ولكن ليس من حقّه المساهمة في تدمير هامش الحريات العامة، أو قلب الحقائق بهذه الصورة الهزلية، فيفتي بأنه كلما زاد عدد الصحافيين المقدّمين للمحاكمة كلّما كان ذلك دليلا على تقدّمنا في مجال الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان! هذه يسمّونها بالعربي «جمبزة» وضحكٌ على الشوارب والذقون!

إننا أمام مفترق طرقٍ، إما أن ندافع عن حرية الرأي والتعبير بوصفها أحد ضمانات الإصلاح، لتبقى الصحافة تمارس دورها في خدمة المجتمع والوطن، وإما أن نعود إلى الحقبة السوداء، حين كانت تُدار الصحافة بالأوامر والزواجر من خارج مكاتب التحرير. وفي هذه الحالة لسنا بحاجةٍ لأكثر من صحيفةٍ واحدة، لتنقل أخبار الدولة للرعايا والتابعين الصامتين.

لسنا ممن يزكّون أنفسهم، فلنا أخطاؤنا ونواقصنا، نسأل الله أن يعيننا عليها، ولكننا لن نقبل بهذا النوع من التدليس والتلبيس في رابعة النهار.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 2378 - الثلثاء 10 مارس 2009م الموافق 13 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً