اليوم الإثنين، الثالث من مايو/ أيار هو «اليوم العالمي للصحافة وحريّة التعبير». جردة الثّمن الصحافي في اطراد كلّما تقادم الزّمن. في كلّ حَوْلٍ جديد، يُحصِي الصحافيون قتلاهم في المناطق الموسومة باللادول. ويعدّون المعتقلين والمُختَطَفين منهم في الدول المُختَصرَة داخل أنظمة، والأخيرة المُتكوّمة داخل حزب، والحزب داخل فرد، الذي لا يرى سوى ذاته، مادام بعده الطوفان.
نماذج موت (أو اعتقال) الصّحافي متعددة. قد لا تكون بالأصفاد والأغلال أو بطلقة على الصُّدْغ لكي يُشْهَد له بالموت رسمياً، وإنما حبس اللسان أو القلم يكفيان لأن يموت الصّحافي سريرياً. فهما العِلَّتان اللتان تجعلان منه متمثّلاً في هيئة صاحب مهنة شاقّة اسمها الصحافة، عرفها البشر منذ أيام البابليين.
فأعداء الكلمة (الذين هُم ليسوا من الحُكّام المُتجبّرين فقط) يستفزّهم الخيال المُتجاسِر على ما لم يسبق التفكير فيه. ويَعِنُّ أمامهم الشَّرَر حين يضغط أصحاب الأقلام والأفواه على الكلمات والنّمنمات المُفضِية إلى تشويش صفائهم الذهني الرتيب. هذه معاناة تُطرَح كلّ عام لإحصاء الخسائر، ولعقِ الجراح، واجترار المأساة، والاستعداد لدفع أكلاف جديدة.
كلّ ذلك يأتي في سياق المنتظم التاريخي للذكرى. لكنه ليس كلّ شيء فيها. باعتقادي أن إحدى صور الذكرى هو وصف أحوال الصحافيين أنفسهم. كيف يتعاطَون مع هذا الحدث؟ وماذا بشأن سِيَرهم الذاتية مع المهنة؟ متى وكيف يُطلقون قُدراتهم، ومتى يُقيّدونها أو يضبطونها، ومتى يلجمونها حتى؟ ومتى يلزم الإقدام ومتى يتوجّب الإحجام؟ وهل الصحافة مشروع استنزاف أم ماذا؟
حسناً. هي كلها قضايا مصيرية ضمن قوس المهنة، ولكلّ منها نصّ وهَمّ. مَن يكتب فإنه يستولي على مساحة من تفكير الآخرين، لكن الصحافي الملتزم أيضاً لا يريد أن يقول شيئاً خاطئاً فقط لكي يسمعه الآخرون على غرار المثل الإنجليزي القائل:Nobody listens until you say something wrong وحين تمرّ عليهم ذكرى كالتي نحن بصددها اليوم، فإنهم «بالضرورة» يقاومون ابتلاعها لهم، لكي لا يكونون تاريخاً تراجيدياً ضمن صفحاتها، يُقرأ لاحقاً ولا يُعطى سوى زفرة أسى من مُسْتَذكِر. فقيمة الصحافة من عنادها. تعتَصِي في المحن، ولا تموء تحت ثوب أحد، ولا تقبل التزلّف ولا المحاباة الفاقعة، مصحوبة برشاقة رفض ناعم. لكن الخلاصة في ذلك هي أن هناك فعلاً من يستحقّ التقريع، بذات المقدار الذي يستحقّ فيه آخرون الثناء والتقدير.
في مشوارهم اللحظي ضمن هذه المهنة الشّاقّة، فإنهم (أي الصحافيين) بالتأكيد أمام معركة سماطاها الضمير واللاضمير، حيث تكمن بين هذا وذاك المخاطر الحقيقية (الجسدية منها أو النفسية) للمهنة. كيف يكتب الصحافي بدهاء في المناطق المستعِرة بطريقة «ينصرف بعدها الحضور معتقداً كل واحد منهم أنه حاز على الجزء الأكبر من الكعكة» حاله في ذلك حال قِسمة التفاوض.
الأكثر أهمية ونَظَراً، هو طريقة الحفاظ على نظام المصالح الخاص بالصحافي نفسه. أن يكتب ما يُقلق (أو يُريح) محيطه الأسري والاجتماعي والمهني والسياسي إن كان محافظاً أو ليبرالياً أو راديكالياً. فالموازنة بين القناعات، الجمهور، قوى التأثير والنفوذ، الأغيار، المسئولية الاجتماعية وظروف السياسة، تصبح معادلة صعبة تضيق فيها المناورة أحياناً لحدّ الغربة من النفس ذاتها.
كيف يستطيع الكاتب أو الصحافي مُغالبة الإغراء لكي يقول ما يعتقد به لا ما يعتقد به الآخرون نيابة عنه. وكم سيكون جريئاً ومُحترَمَاً إن وهَّنَ من إطراء جوقة له في مجلس، أو سفّه من خطابات تُحرّضه على إشباع ذاته مديحاً؛ لأنه يعتقد بأن عكس ذلك يدفعه حتماً إلى الاعتقاد بأنه رجلٌ وازن في محيطه، فيكون عصِيَّاً على مخالفتهم. جاعلاً من قناعاتهم وسيلة لاستراق السَّمع المُحبب له.
فبني البشر هم كإفرازات الطبيعة التي تصيبها التعرية، ويجتاح قشرتها التبدّل. ليس المعنى هو أن يجبّوا الأصول بأصول أخرى، والفروع بهرطقات مُزيّفة، وإنما بإعادة التفكير في لوازم السياسة، ومواقف الأفراد والجماعات، عبر قاعدة تفكير عريضه، لها مضمونها الحقيقي من العِلم بالأشياء. فالأصل هو أنه إذا وُجِدَ المضمون انصاع الشّكل كما يقول تولستوي.
وكما اكتُشِفت أعظم الاختراعات عن طريق الخطأ، يمنح البحث المسترسل، والتعثّر أحياناً، وضمّ المعلومات إلى بعضها، ثم فكّها، وإزاحة الشوائب عن ملمَح فكرة مطمورة، ثم رَتْقها، ونفض الغبار عن أخرى، وخفض الجناح لنتيجة صاعقة، يمنح كلّ ذلك الصحافي والكاتب أفقاً أرحب في التفكير، ومعالجة القضايا الطارئة بمجهر آخر. فمن تساوى يوماه فهو مغبون.
ولربما اعتبر البعض من الكُتّاب (ومنهم صاحب المقال) أن ذلك البحث يُحيلك إلى ثقافة جبريّة من نوع خاص. فالصحافي أو الكاتب لا يستطيع أن يُغلق المذياع عن أذنيه ليوم أو بعض يوم، أو أن يتهرّب من قراءة الصحف اليومية. بل هو مُقيّد بأن يقرأ عشراً منها على أقلّ تقدير إن كان على سبيل نجاة، ورام أن يكون واعياً لما يكتب، ومُقدّراً قيمة وقت القرّاء الذين يمنحونه إيّاه.
هذا الجبر في البحث يتحوّل لاحقاً إلى نمط، والنّمط إلى سياق مهني يبدأ بناؤه في التماسك كلما أضِيفَ له ما يسنده من جُدُر بحثيّة/ علمية تقيه هزّات الزلل والكبوات. بالتأكيد فإن هذه الأنماط ليست قدريّة في مصائرها، وإنما هي كذلك في الزوايا التي تتطلّب أن يلعب القدر فيها بمقدار ما يجعلها صلبة القوام، عصيّة على محاولات صياغة العقول عن بُعد.
فالصراع الكوني اليوم، هو كيف يبحث الفرد منا عن المعلومة الصحيحة المُجرّدة التي تُحسّنها الرؤى والأفكار. المعلومة التي لا تُسخّر من أحد، ولا لأجل أحد، ولا ضدّ أحد؛ لأن مسار الأحداث خارج عن السيطرة المطلقة للدول فضلاً عن الأفراد والأحزاب، مهما كانت سطوتهم وجبروتهم.
في كل الأحوال لن تبقى ذكرى الصحافيين وكأنها رياح مأتمية نستقبلها كلّ عام؛ لأنها فرصة للتجديد والتشبّث أكثر بالمهنة. لكننا أيضاً «لن نحترق من أجل آرائنا؛ لأننا غير متأكدين منها، لكن يمكننا الاحتراق من أجل حق امتلاك وتعديل آرائنا» كما كان يقول الفيلسوف الألماني الوجودي فريدريش نيتشه.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2796 - الأحد 02 مايو 2010م الموافق 17 جمادى الأولى 1431هـ
رد على رقم 3
خلال الفترة الأخيرة والمقالات عن العراق يبدو أن المتداخل من غير المتابعين
سبحان الله موضوع غير إيران
سبحان الله في مواضيع غير إيران!!!!!!!
أبد الدهر
المشكلة ان بعض الصحفيين لا تتغير آراؤهم أبد الدهر وكانهم شعار لماركة مسجلة
الاختلاف والاتفاق
الاستاذ القدير محمد ابو عبدالله . لطالما اعجبتنا كتاباتك عن الشان الايراني واتفقنا معها وكذلك عن الشان العراقي رغم اختلافنا حولها لكن ما نتفق عليه جميعا هو قدرتكم على الكتابة بشكل رائع كما في مقال اليوم وفي غيره من المقالات. لك كل التوفيق والاحترام