بدأت أمس معركة الانتخابات البلدية والمجالس الاختيارية التي ستجرى على ثلاث مراحل في لبنان. فالمعركة التي افتتحت في جبل لبنان ستمتد على مدى شهر مايو/ أيار تقريباً لتشمل كل المحافظات في بيروت والشمال والبقاع والجنوب بعد سلسلة نقاشات أدت إلى اعتماد النظام الانتخابي القديم حتى لا تضطر الحكومة إلى تأجيل موعد الاستحقاق الدستوري الذي حدد الثاني من مايو اليوم الأخير في الدورة السابقة.
المعركة إذاً بدأت في جو تجاذبات سياسية مغايرة لتلك التي سادت لبنان قبل سنة بمناسبة الانتخابات النيابية التي حصدت فيها قوى 14 آذار غالبية نسبية ضد قوى 8 آذار. والفارق الزمني البسيط بين الموعدين كشف عن وجود اختلاط في التحالفات وتداخل في التوافقات ما قد يؤدي إلى إعادة رسم هيكلية جديدة للتوازنات لا على أساس الفرز الطائفي – المذهبي وإنما على قاعدة بروز دور العائلات والأسر والعشائر في جغرافية المحافظات والأقضية.
محافظة جبل لبنان التي انتخبت أمس تتألف من ستة أقضية وهي جبيل، كسروان، المتن الشمالي، بعبدا، عاليه، والشوف تضم 313 بلدية تتوزع على الموارنة والأرثوذكس والأرمن والكاثوليك والدروز بينما يشكل السنة والشيعة أقلية في هذه المدن والبلدات والقرى قياساً بالتكتلات الأهلية الأخرى. وبسبب ضعف السنة والشيعة في هذه المحافظة تراجعت لغة السياسة وما يشوبها من انقسامات عامة لتحل مكانها لهجات محلية تتحدث عن الإنماء والإعمار مصحوبة بنمو دور الانتماءات الصغيرة وتلك الهويات الضيقة المحكومة بمواقع العائلات وقوتها التصويتية في قراها وبلداتها.
الجمعيات السياسية في لبنان قوية عادة وهي ازدادت قوة خلال الحروب الأهلية – الإقليمية بسبب قيادة الميليشيات المسلحة للمعارك وإدارتها للأحياء التي كانت تتعرض للقصف والهجمات المباغتة. وقوة الأحزاب التي توسعت خلال فترات الحروب تراجعت نسبياً بعد اتفاق الطائف وحصول الهدنة إلا أنها استمرت تلعب دورها في إطارات جغرافية وطائفية ضيقة ما أدى إلى تكيفها مع المذاهب التي تسكن في هذا القضاء وتلك المحافظة.
هذه القوة الحزبية التي تماسكت مذهبياً وطائفياً ومناطقياً في فترة الانتخابات النيابية التي جرت في العام 2009، انكشفت الآن خلال الانتخابات البلدية والاختيارية في العام 2010 بسبب اختلاف آليات الاقتراع وحجم الدوائر وطبيعة النسيج الأهلي للتحالفات. فالرقعة الجغرافية للقرية أو البلدة لا تسمح بتكوين فرضيات خلافية سياسية بشأن القضايا الوطنية المشتركة. وانقسام العائلة وتوزع أصواتها في المعركة النيابية بين 8 و14 آذار تحول إلى توحد العائلات في مواجهة طموح الأحزاب للسيطرة على المجالس في المعركة البلدية.
العائلة على المستوى الضيق أقوى من الحزب. والحزب على المستوى العام أقوى من العائلة. وبسبب اختلاف ظروف المعركة تعدلت آلية الاختيار وقواعد الاقتراع والائتلاف ما أدى إلى تراجع الأحزاب وقبولها تقديم تنازلات لمصلحة كسب أصوات هذه العائلة ضد الأخرى المنافسة.
أدى هذا الاختلاط إلى إعادة ترتيب علاقات غريبة وعجيبة بين 8 و14 آذار. بعض مدن وقرى جبيل هناك معارك سياسية بين الكتلتين. وفي بعض قرى كسروان هناك انقسامات وتحالفات ثنائية تجمع الأوراق بين القوتين. وفي بعض قرى المتن الشمالي هناك تحالفات تجمع القوات وتيار عون ضد الكتائب، وتحالفات تجمع القوات والكتائب وميشال المر ضد عون ، وتحالفات تجمع عون والمر والكتائب ضد القوات، وتحالفات تجمع المروعون والقوات ضد الكتائب. وهكذا.
هذا التوزع على مستوى الأقضية المسيحية انسحب بدوره على مستوى الأقضية الدرزية إذ اختلطت أوراق 8 آذار بأوراق 14 آذار، إذ تحالف وليد جنبلاط مع عون في بعض القرى المختلطة ضد الكتائب والقوات، وتحالف أيضاً مع 8 آذار ضد 14 آذار في قرى أخرى. وهناك تحالفات جمعت طلال أرسلان مع جنبلاط في مناطق إلى جانب انقسامات في التحالف وظهور تكتلات ضد تيار دوري شمعون في الشوف ومناطق أخرى. حتى إقليم الخروب السني شهد تحالفات ذات طبيعة خاصة بعد أن قررت «الجماعة الإسلامية» خوض معارك مستقلة في بعض البلدات ضد تيار المستقبل (سعد الحريري).
المقارنة بين الخريطتين الانتخابيتين تكشف عن وجود متغيرات ظاهرة في أمكنة وخفية في أمكنة وكأن القوى التي خاضت المعركة النيابية قبل سنة ليست هي التي تخوض الآن المعركة البلدية والاختيارية. هذا الاختلاط يرسم من جديد حدود الائتلافات والتوازنات والتداخلات من جانب ولكنه يرسل إشارة باتجاه طبيعة لبنان الأهلية وتكوينه السكاني (الطوائفي) من جانب آخر. فالانقسام الأهلي الذي يتمظهر أحياناً في السياسة لا أفق له حين تنزلق المعارك إلى القضايا التنموية والمحلية. الاختلاف بين المشهدين يؤكد على مسألة مهمة تتمثل في ضعف السياسة والأحزاب في بلاد الأرز مقابل قوة الطوائف والمذاهب والعشائر والأسر في لعبة الاختيار والانتخاب أو قواعد الاشتباك والائتلاف.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2796 - الأحد 02 مايو 2010م الموافق 17 جمادى الأولى 1431هـ