عندما تحطّ بك الطائرة في مطار بغداد، لا يُراودك شكّ بأنك في مطار مختلف. وعندما تهمّ بالخروج. لا يأسرك منظرٌ خلاّب، أو ملمَح سياحي بارز، بقدر ما يأخذك الجوّ الأمني، بأسماله المُرعِبَة، وبيافطاته التي لا تتحدّث سوى عن القتل! أقصى ما كنتُ أقرأه في شوارع البحرين (والدول التي زرتها) هي: سقْ بحَذَر، عمّال يشتغلون. في العراق تفاجأت أن اللوحات التحذيرية هي من عيار: قِف مكانك، هنا نقطة تفتيش، مُخوّلون لإطلاق النّار!
في النظرات القريبة ترى الشّوارع وهي مُبرعَمة بالمدرّعات وبكلّ ما يتطلّبه معمعان القتال. وفي النّظرات البعيدة تلحظ الثكنات ذات الأسوار العالية والمساحات المُطلقة، والطائرات المُحلِّقة. تتساءل: لماذا هذا البلد مُنهَكٌ أمنياً رغم كلّ هذه المفارز ومُعدّات الحرب من قِبَل أعتى قوّة في العالم؟! تذكّرت الحرب الأهليّة الأميركية. فقد كان جيش الجنوب الأميركي أفضل حالاً وتدريباً، وقادته أكثر مراساً في القتال من الشّمال. لكن أمور أخرى حسمت المعركة لصالح من له عتاد وعدّة أقل!
إذاً (والعقدة هنا) لا معنى لأن نسمع تصريحاً لوكيل وزارة الدفاع الأميركية لشئون الإمداد والتكنولوجيا والمشتريات آشتون كارتر، من أن البنتاغون سَحبت حتى الآن «2.2 مليون قطعة حربية، من بين 3.5 ملايين قطعة في العراق، وأنه يتعين سحب 1.2 مليون قطعة بنهاية أغسطس/ آب المقبل» لإرسالها إلى أفغانستان. فالنتيجة لم (ولن للتأبيد) تتغيّر لا في العراق ولا في أفغانستان. فميزان المعركة لا يقلبه سلاح، بقدر ما يُؤثّر فيه ما هو أدنى منه في السياسة وحُسن التخطيط.
فيما خصّ العراق، الذي قَطَعتُ همّه السياسي منذ أن أدركت أنه في أزمة وجود، يُغالِب ساسته أمور دنياهم في الحُكم كما غالبوا من قبل أمر صراعهم مع نظام صدّام حسين وتالياً شرعية ما هم بصدده اليوم من نظام مُعلّب على الطريقة الأميركية. أكثر من 17 فرقة عسكرية، لكل فرقة منها أربعة ألوية تعداد منتسبيها 350 ألف جندي، بالإضافة إلى 600 ألف رجل أمن وشرطي يُساندهم 140 ألف جندي أميركي و310 من الشّركات الأمنية المُتمرّسة في حرب العصابات والحمايات الشخصية لم تستطع توفير الأمن للعراقيين طيلة السنوات المنصرفة!
ليس الأمن الشخصي هو المُهدَّد من التفجيرات الإرهابية فقط، وإنما حتى على مستوى السرقات. ربما هو نَهْجٌ دَرَجَت عليه القوّة الغازِيَة. العراقيون يتذكّرون أن القوات الأميركية عند دخولها بغداد استولت على القصور الرئاسية ووزارة النفط والمالية ومقرّات المخابرات، وتركت باقي المؤسسات عُرضة للنهب والسّلب، بدءاً من الأثاث، ومروراً بالمواد الغذائية والحيوانات العاشِبة واللاحِمة، وحتى معدّات المعامل والكيماويّة والخمور والمُسكِرات.
حتى أن العراقيين يتداولون طرفة وجدتها في غير مكان يتحدّثون عنها مرة بالقلم ومرة بتوضيحات اللسان. مفادها أن «الحواسم» (وهو مصطلح يُطلق على السُّرّاق)، وحينما سقطت بغداد، انقضّوا على مقرات الدولة المنهارة التي ظلّت بلا رقيب ولا حسيب، ومن بينها مقرّ اللجنة الأولمبية العراقية. فسرقوا ما سرقوا منها. وكان جزءاً من المسروق كميّة كبيرة من الخمور وبأنواع فاخرة.
ولأن بعضاً من أؤلئك الحواسم، هم أتقياء وورعون ومعروفون بالصلاح وسط مجتمعهم! فقد أخذهم الحياء في أن يتصرّفوا في ذلك «المخزي» جهاراً وأمام الناس. فلجأوا إلى أحد العراقيين الذي كُفَّ بصره منذ سنين، والمعروف بنهمه في احتساء الخمر صباح مساء، لتصريف ما سرقوه. إلاّ أن الرجل ردّ عليهم: اعذروني ما آكل حرام!
عندما مُيِّعَت الدولة، وقلّ نفوذها وتأثيرها على الناس، لم تعد مرجعاً إدارياً ولا قانونياً ولا خدَمياً لهم. حينها رَجَع الناس إلى القيم الأوّليّة... علماء الدين... الوجهاء... الفقه العشائري... بل وحتى إلى من هم الأقدر على إبراز نزوتهم النّزِقَة في إيذاء الناس. وحول ذلك حدّثني أحد العراقيين ممن راقبوا الحدث بمعايشة مباشرة بالقول: عندما رأى علماء الدين (سُنّة وشيعة) مهزلة الحال، أفتوا بحرمة سرقة المحتويات من مؤسسات الدولة. بعد يومين امتلأت الجوامع والحسينيات بالحاجيات المُرتَجعة.
اليوم أخوَف ما يُخاف عليه في العراق ليس ضعف المعالجات الأمنية للواقع اليومي، بقدر ما هو ضعف القوام السياسي المُتأسّس توّاً في هذا البلد... أن يُعاد ترسيم العراق من كُوَّة الجرح التاريخي حيث ضاع التمثيل الشيعي في دولة ما بعد العام 1920، حينها يتقسّم البلد إلى نطاقين مفترِقَيْن من حيث البُنى الاجتماعية والاقتصادية، لأن طريق المُكابَدَة لأصحاب إرجاع الإرث المنهوب يُصبح أكثر تطرفاً، فيأكلون ما لهم وما لغيرهم.
نجده اليوم في أبسط المظاهر... التي برزت بعد الانتخابات التشريعية، وبالتحديد لقائمة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاّوي. مرة باسم التزوير، ومرة باسم الاجتثاث، ومرة باسم القضاء، وأخرى عبر الاغتيال حتى تُصَفَّر القائمة، أو نُجَوَّف، ليصبح الحال كبرلمان الراينلاند التمهيدي حين تمثّل الريف بعشرة أعضاء، في حين أنه يُمثّل 73 في المئة من السّكّان، وما تلى ذلك من احتقان سياسي ولّد أزمات أكلت الأخضر واليابس.
نقطة النظام هنا، هي أن الأمن مرتبط بشكل عضوي بالسياسة. وحينما تكون الأخيرة متعذّرة لحد شِيب الغراب، فإن أمن الناس يُصبح في مهبّ الريح. فسماط منهم سيصبح أسير معارك المسلوب، وإرجاع ما ضاع منه بدفوع من السياق التاريخي تارة، وبحماية ما تبقّى له من لحمه الحي تارة أخرى.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2794 - الجمعة 30 أبريل 2010م الموافق 15 جمادى الأولى 1431هـ
صحوه متأخره
على فكره الشيعه هم الان أكثر من يتندر على حكم صدام بعد ان ضاقوا الامرين من شلة القتله والافاق والسراق والمحتالين وهم من خرج بمسيره حاشده لم يشهد لها العراق حجم في هذا الوقت وكان تعتيم الاعلام كبير جدا بحجبها واطلقوا مقولتهم الشهيره (صدام خلافك ذلينه ...صدام خلافك ذلينه .)
رد على 4
تقصد من؟ الكويت يعني؟ آها فكرت مكان ثاني
ماذا تريد ؟
أن يعطى علاوي الأكو والماكو وهو ليس سوى واجهة لمن يريدون أن يستردوا إرثهم الضائع منذ 2003
ابويوسف
أهل مكة أدري بشعابها
عشنا او شفنا
هذا ماجليتم لانفسكم يأهل العراق .. انتم من فتح للامريكان حدودكم ليهرجوا ويمرجوا فيها والان تشتكون الامرين ! كم عدد العراقيين الشرفاء الذين ماتوا من 2003 وكم من العراقيين الذين فتحوا الحدود للامريكان وكانو مبتهجبن الان يلعنون الحظه التي تجرئوا فيها بفعلتهم ويترحمون على النظام السابق رقم ظلمه ؟ لان الامان مفقود والنظام مفقود ولاهم يشعرون بأنهم في دولة قانون يل بلمعنى الصحيح (دوله للعصابات) وليست دوله لعصابه بعثيه فقط كما السابق .
اضافة
ولكن تجارب العالم والدول هي ان دوام الحال من المحال ونسال الله المتعال ان يجعل العراق في مصاف الدول المتقدمة والديمقراطية
كلمة
اخي الكريم العراق منذ الأزل وهو يعاني الامرين والماساة وعندما قدر الله له التغيير وقف المجرمون اثرياء النظام المقبور والطائفيين في وجه هذا التغيير
النجف وكربلاء
بس مدن كربلاء والنجف امن وامان