على مستوى السياسة، حلت السيادة الوطنية محل السيادة الإلهية والطبيعية. وعلى مستوى الاقتصاد، تقدمت حيازة الخيرات المنقولة على حيازة العقارات التي كان امتلاكها سبباً في نشوء الإقطاع وهيمنته. وعلى مستوى الأهداف، حل الاعتقاد بالتقدم، (في هذه الدنيا)، القائم على أساس العقل، محل الاعتقاد بالعصر الذهبي السالف والخطيئة الأصلية. على مستوى العمل، حلت المبادرات الفردية محل المبادرات الاجتماعية.
ويضيف: «لقد أدت الظروف المادية الجديدة إلى ظهور علاقات اجتماعية جديدة، فظهرت فلسفة تبرر هذا الواقع الدنيوي الجديد، هي الليبرالية».
وفي موضع آخر يقول: «لقد ساد الاعتقاد خلال العصور الوسطى بأن على الإنسان، طالب الخلاص الأخروي، أن يدبر حياته الأرضية بما يقتضيه هذا الخلاص. فكان طلب الثروة المادية ومراكمتها يتعارضان مع غرض الخلاص، حيث إن الإنسان كان يعتبر نفسه أميناً على ما بيده من ثروة، لا مالكاً لها. وبطبيعة الحال فإن سيادة هذه الأخلاق الاجتماعية كان يتم من خلال قيمومة الكنيسة على المجتمع ويضمن بالتالي سيادتها».
«ثم أخْلَت نظرية ملكية المجتمع محلها، تدريجاً، لنظرية الملكية الفردية، من خلال تقدم الرأسمالية وانتشارها. كما أخلى الاعتقاد بوجود قدرة إلهية مشرفة على الأعمال والتصرفات محله للرأي القائل بأن كل عمل ذي نفع جائز ومشروع، وهكذا لم يعد المعيار منفعة المجتمع، بل إرضاء الميول والرغبات الخاصة، ورسا الأصل القائل بأن من يملك ثروة أكبر هو أقدر على توفير احتياجاته وتحقيق راحته ورفاهه».
ويقول مفكر آخر، هو و. ث. جونز:
«استحوذ الإنسان في عصر النهضة بأهمية أكبر من الله، وأصبح الاهتمام بارتباط الإنسان ببني جنسه أكبر من الاهتمام بارتباط روحه بالله. واتخذ الإنسان الطبيعة والإنسانية هدفاً، عوضاً عما فوق الطبيعة والكمال الإلهي، وبات الأمر الأهم ما يحققه الإنسان في دنياه، لا ما ينتظره في العالم الآخر. ومطالب الإنسان في هذه الدنيا إنما هي، عموماً، غنى شخصية الفرد، ونمو قواه العقلية، وقابلياته المعنوية، واستثمار مظاهر الجمال المتنوعة، والحياة المجللة بالنعم الدنيوية. وهكذا خرج العالم من كونه مرآة للمشيئة الإلهية، ومظهراً ثابتاً للإنسان، ليصبح ميداناً لتجاذب قوى الطبيعية وصراعها. فلا مفر إذاً للإنسان من الالتحاق بحلبة التنافس هذه».
«إن مفهوم التوفيق الإنساني هو في عصر النهضة غيره في العصور الوسطى. فحياة الإنسان العابد المناجي لله، العامل بالخير، لا يمكن، بمقاييس عصر النهضة وميزان الأخلاق المتعارف عليها، أن تؤول إلى النجاح؛ فالنجاح بالمقاييس المستجدة يستلزم شيئاً من التصميم في القرار ومن اللامبالاة حيال الآخرين طالما أنه، أو عدمه، ثمرة منافسة مع آخرين يطلبون لأنفسهم الأمر نفسه».
إن كلام لاسكي وجونز، وإن كان قابلاً للمناقشة في بعض جزئياته، ومردوداً في جزئيات أخرى، يصف روح العصر الجديد.
لقد وجد من أسف لضياع معايير العصر الماضي وانهدام أسسه، ورأى في هذا الضياع وذاك الانهدام إطاحة بقوام إنسانية الإنسان. ولكن حتى الذين جهروا بهذا القبيل من الأسف لم ينكروا أن هيمنة ظاهر الدين على المجتمع لم تكن بالأمر الصحي والسليم.
حيال هذه التحولات الجذرية وجد أيضاً من أسقط في أيديهم فاستسلموا إلى نوع من القضاء والقدر، فأمسكوا عن الحركة وعن المشاركة. وإلى هؤلاء وأولئك وجد من اعتبر أن جميع هذه التحولات أمر لازم لحياة الإنسان، وأنها عين حركة الإنسان نحو الكمال (النسبي)، وأن هذه التحولات تترجم عن عبور من مرحلة الأوهام والسفسطات إلى مرحلة من الواقعية، وأنه عبور يستجيب لطبيعة التجربة البشرية التي تترقى من حال إلى حال، من خلال ما تتعرض له من امتحان متكرر، وما تفلح في انتهازه من فرص.
وليس جزافاً القول إن هذا العهد الجديد من تاريخ الغرب هو عهد دنيوي بامتياز. فمحل اهتمام أهل الرأي وعنايتهم هو الطبيعة بشتى ظواهرها دون ما وراء الطبيعة وبعدها إلا بمقدار ما يكون مستفاداً من العلم الطبيعي، أو مبرراً للطبيعة أو في خدمتها. وكذا بالنسبة إلى الإنسان، فإن جميع حقائقه الجسمانية والنفسية والدنيوية والمعنوية كانت بدورها محل رعاية واهتمام، لأن معرفة الإنسان لا تستقيم دون الوقوف على خصائصه هذه جميعاً، وليس ما نسميه بالنزعة الإنسانية (Humanism) إلا التعبير الجامع عن هذا التحول في الأولويات.
إلى ذلك فلقد شاعت شتى ألوان التشكيك الفلسفي، ولم توفر شيئاً أو فكرة: فلقد شك في وجود عالم مجرد غير مادي، كما شك في قدرة العقل وقيمة المعارف التي يؤدي إليها. وبطبيعة الحال لم تسلم علوم العصور الوسطى ومعارفها. وشيئاً فشيئاً رجحت التجربة على العقل كوسيلة للمعرفة وكصلة وصل بين الذهن والخارج. وبترجيحها تهاوى بنيان علم ما بعد الطبيعة العقلي، وأخذ علم ما بعد طبيعة جديد يوافق النظرة الجديدة إلى الإنسان والعالم، وما تفتح من موارد غير مسبوقة، مع تقديم الدنيوي والتجريبي على الأخروي المجرد - أخذ يستتب على صفحة هذا العهد الجديد من تاريخ الغرب الذي لم يلبث أن صار عهداً جديداً من تاريخ البشرية جمعاء.
ومع ماكيافللي، كما سبق القول، وأفكاره وآرائه، أسفر الإنسان الحديث لأول مرة عن وجهه السياسي. لهذا الكاتب الإيطالي الشهير مؤلفات عدة أهمها، في باب السياسة، كتابه الذائع الصيت «الأمير».
يصور ماكيافللي في هذه الرسالة الحاكم كما ينبغي له برأيه أن يكون. أما مؤلفه الآخر والأهم يعرف تحت اسم «المقالات» وهذا الاسم اختصار عنوان طويل هو: مقالات حول العقود العشرة الأولى من تاريخ تيتس ليفيرس.
يذكر أن نشر هذين الكتابين قد زامن قيام مارتين لوثر (1483 - 1546م) بتعليق أسئلته الاعتراضية الخمسة والتسعين على مدخل كنيسة فيتنبرغ في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 1517م. وحسب هذه الإشارة أن تبين في أية فترة عصيبة ومفصلية من تاريخ أوروبا عاش ماكيافللي وكتب.
إقرأ أيضا لـ "محمد خاتمي "العدد 2793 - الخميس 29 أبريل 2010م الموافق 14 جمادى الأولى 1431هـ