أفضّل أن ألج في قراءة هذا الديوان غير متساير مع مقولة موت المؤلف إذ سأحييه وأبعثه في نصه منذ العنوان، حيث سأفتتح حواراً عن قصديات المؤلف ومراميه من غير أن أقمعه أو أقمع المقترحات التي سيقترحها المتلقي العابر ولكن في الحدود التي يسمح بها النص وتكون دلالاته الظاهرة وعلاماته الخفية قادرة على الإجابة عن أهم الأسئلة المتوقعة.
حين يختار الجلاوي عنوان « دلمونيات» اسماً لديوانه فماذا يريد أن يقول وما هي اللعبة الفنية التي يقترحها في نصه على المتلقي والتي يراوغ بها من خلال هذا الدال عن أمور أخرى، وهل يضيف هذا العنوان حالة شعرية، وما هي المقولات التي يتخفى الشاعر وراءها بهذا العنوان، وكل هذا الإلحاح في السؤال من أجل أن يحيل هذا النقد على مجهول لعل الأسئلة والحفر ثم النبش بين المتناثرات في ثنايا القصائد تحيل على هذا المجهول المدعى أو تصنع المتعة الأدبية المشتهاة من وراء النص أو تكشف عن البعد الجمالي والمعرفي الخفي والظاهر في آنٍ واحد.
إن اسم دلمون هو الاسم القديم للبحرين حيث اشتهرت في العهد السومري لثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد.
وحين يختار الجلاوي مفردة «دلمونيات» اسماً لديوانه فكأنه يريد أن يجلي حالة من حالات الانتماء البعيد الممتد في الغابر من الأزمان للذات الشاعرة إلى هذه الأرض من خلال فعل الشعر ويريد أن يجلي البصمة الدلمونية في أحرفه المدمية المحترقة وبهذا تكون مجموعة النفثات الشعرية الموسومة بوصف دلمونيات وهي هذه القصائد المتجمعة في هذا الديوان تعبر عن هذا الانتماء.
إن العنونة بمفردة «دلمونيات» في صيغة الجمع المؤنث عند الإشارة إلى هذه القصائد فعل ثقافي تكمن في دواخله استراتيجية شعرية تحمل بعداً دفاعياً مستميتاً في مواجهة الإقصاء والتغريب المقصود أو محاولات الفصل المفتعل بين الذات والمكان أو المحاولات الواقعية التي يجترح فيها فعل الإبعاد القسري لإنسان هذا المكان من خلال آليات التسلط وتقنياته القاهرة، وما سمة الدلمونيات لهذه القصائد إلا محاولة للتشبث بالمكان عبر ترحّل الذات إلى أبعد النقاط والمواقع الزمانية الدالة على أصالة الذات وامتدادها في الزمان والتصاقها بالمكان في استراتيجية شعرية تحمل من ضمن ما تحمل البعد الدفاعي المستميت عن أصالتها العريقة في علاقتها بالمكان والزمان متجاوزة القهر والإقصاء والتغريب.
وما دامت هذه النفثات هي نفثات دلمونية وصاحبها متوحد معها من خلال توحد الفعل الشعري مع الذات ودلالته عليها، وما دامت الذات الشاعرة تعبر عن الضمير العام للمجموع (الضمير الجمعي) فإن الذات حين تعبر عن كونها دلمونية أصيلة عريقة فإنها تعبر عن كون الجماعة دلمونية أصيلة عريقة وبهذا تكون الاستراتيجية الشعرية استراتيجية دفاعية في تعبيرها عن الانتماء للمكان من خلال الانبناء في هذا البعد الزمني.
يتنقل علي الجلاوي في ديوان «دلمونيات» بالمتلقي في ست محطات هي دلمونيات التي تسمى بها الديوان، ووجود آخر، وجسد، ولقاء، ومرافعة على باب الله، والمريمية. وفي الوقت الذي كانت فيه جميع النصوص متواصلة في دفقة واحدة جاء النص الأول دلمونيات في اثنتي عشرة وقفة. فما سر هذه النقلات، وماذا تقدم من مقولات ثقافية وفنية.
وأراني لما قدمت من قراءة في العنوان، أتساءل هل تكاملت دلمونيات الجلاوي، وهل قال كل ما يريد في الدلمونيات أم أنه بهذا العنوان كان يعد بمشروع يختزن فيه رؤية قادمة وهو لما يقدمه بعد.
وهل يحسب نفسه بوضعه لهذا العنوان على هذه النصوص وفّى بما أراده وبما وعد به متلقيه أم ما زال في النفس الكثير مما لم يقله وما هذا العنوان إلا صورة لما افترضته لحظات الطبع وملابساتها من تسرع ومغامرة غير محسوبة، ولا محسومة إلا من خلال تجاوز عملية المراوحة في الإنجاز واللاإنجاز ومشروع الانطلاق من عقال الصمت المميت.
في دلمونيات ينظر الجلاوي للشعر على أنه ضلال لذلك لا تتعجب منه حين يخاطب نفسه منذ البداية بالدخول في هذا الضلال الذي من خلاله سيقول الكثير.
ادخلي
في ضلال القصيدة أوفي السلام
فكل الذي لا يقال هو الشعر.
وهنا تتحمل العملية الشعرية لدى الشاعر ثلاثة عناوين ومفاهيم تمثل إشكاليات متجذرة ومتجددة في الحقل الثقافي للمقولات الشعرية دائماً.
الشعر بوصفه ضلال
الشعر بوصفه بوح بالمسكوت عنه «قول ما لا يقال»
الشعر بوصفه متاعب حيث الخلو من الشعر سلام
إن قراءة عابرة للأسطر السابقة تجعلك ترى الشاعر يستعيد المقولات السابقة ويعيد شحنها من جديد بألفاظه الخاصة فاستعارة «ضلال القصيدة» تختزل كثيراً من المقولات السابقة والتصورات النسقية للشعر منذ طرد أفلاطون للشعراء من مدينته الفاضلة حتى لا يتم تضليل الفكر وتخريب عقول الناشئة بالصور الشعرية الخيالية الكاذبة، فالشاعر لديه ضال مضل، وتتناص عبارة «ضلال الشعر» كذلك مع ما يحفظه النسق الجمعي من صورة للشعراء الضالين «الذين يتبعهم الغاوون» كما قدّمهم القرآن في سورة الشعراء.
«وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ (226 )»
وتختزل عبارة ضلال الشعر كذلك المقولة القديمة التي تصف الشعر بالكذب حيث تقول «أعذب الشعر أكذبه»، ولعل هذا ما جعل بعض المتكلمين يرفضون المجاز في القرآن الكريم لكونه كذباً ويحملون كل شيء على الظاهر، وينكرون التأويل ويعتبرونه ضلالاً هذا في الجدل الكلامي قديماً أما حديثاً فلا أدل على ذلك من موقف النقد الثقافي من اعتبار العملية الشعرية برمتها ضلالاً جديداً، مما حدا بالبعض إلى اعتبار الشعرية العربية من أهم آفات العقل العربي وعملية تشعير الأشياء عندنا من أهم أسس التخلف الشرقي، إن اختزال الشاعر لكل هذه المقولات تجعل من العملية الشعرية عنده تحمل وظيفة اختزالية حيث يقوم الشاعر من خلال الاستعارة بتكثيف المقولات السابقة واختزالها في عبارة جديدة وإعادة إنتاجها.
ويستوقفك ها هنا أن مقابل الضلال ومقابل قول ما لا يقال مقابلهما «السلام» حيث لا تعب ولا «وجع رأس» وبهذا تكون العملية الشعرية ثورة وبوحاً بالمسكوت عنه ومجموعة من المتاعب القادمة.
فهل تمثل الشاعر مقولاته عبر هذا الديوان وهل لامس بوحه المزعوم شيئاً من المسكوت عنه كما يرى هو في العملية الشعرية، هل فعلاً قال ما لم يقل، من خلال شعره هل صدمنا بما نحاول أن نستره من عيوب وكشف ما نحاول أن نخفيه حتى يتم معالجة الداء، ليكون الشاعر الطبيب أو يكون الشاعر المغضوب عليه كما هي الصورة النسقية للشاعر الضال الصعلوك، المنفلت من حدود الجماعة وقيمها المتسلطة.
في نص دلمونيات قدم الشاعر ذاته في صورتين «أنتِ / أنا» مخاطبة سلبية ومتكلم إيجابي، المخاطبة عبر الضمير المؤنث «أنتِ» والمتكلم عبر ضمير المذكر أنا وذلك ليس غريباً عبر الثقافة النسقية التي تغيب المؤنث وتخاطبه وتستصغره وتستحضر المذكر وتتباهى به في صيغة فحولية ظاهرة وإذا كانت الصيغة المؤنثة أنت المخاطبة السلبية قد اختزلت مفهوم الشعر في الضلال والتعب وقول ما لا يقال فما ذا ستقدم الصيغة الذكورية من صورة للشعر.
.. أنا
قالوا: سمعنا فتى دلمونياً
يوزع أحلامه
حين ينسل عن لا مكان القصيدة
يدخل في حكمة الضد
كان فتى
كلما أضرمته الخصوبة
ينزل عن بردة الله
ملتهباً بالصلاة.
وهنا يلجأ الشاعر للصيغة القرآنية في تقديم نفسه مستعيناً بالصورة التي قدمها القرآن للنبي إبراهيم من خلال حديث المناوئين له حين كسر أصنامهم «قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ» (الأنبياء: الآية 60)
مقتبساً الصيغة التعبيرية مقدماً ذاته بكل فخر من خلالها عبر استبدال الفاعل والفعل في الجملة الشعرية.
سمــــــــــــــعنا ----- فتى ----- يذكــر ---- هــــــم
سمــــــــــــــعنا ----- فتى ----- يوزع ----- أحلامه
«سمعنا فتى دلمونياً يوزع أحلامه»
وتأتي صفة دلمونياً لتعمق التعبير عن تجذر الشاعر بما يجعله مستطيعاً المقاومة من خلال تشبثه بالصفة دلمونياً واستعانته بالنسب الغائر في القدم، أمام سلطة الجماعة التي عبر عنها كذلك بصيغة فخرية من خلال استبدال ذاته بإبراهيم.
وما هذه الأشعار سوى أحلام الفتى وتأتي لفظة حين ينسل لتعبر عن أمرين هما التخفي وسهولة تسويق القصيدة في طراوة وطزاجة عبر عبارة «حين ينسل عن لا مكان القصيدة» رغم ما توحيه اللفظة من عملية التسلل حين المطاردة.
وفي الدفقة التي تعنونت بـ «جهات»
تظهر لفظة الشعر كذلك مستعينة بسياق تركيب قرآني
بالشعر أمارة
فادخلي
واطمئني بوحي الجنون
فأين تولي فثمة غيب جليل
ندامى
إذا ما دنى السكر
وانشق ليل
أطلت نوارس مأذنة
كلما شاء يأبى
ويبقى هو الشعر.
وذلك حين يستبدل بالنفس الأمارة بالسوء/ النفس الأمارة بالشعر، «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» (يوسف: الآية 53)
وحين يستبدل الشعر بالسوء فإنه يؤكد ويرشح مقولة ضلال الشعر.
ويستعير آية: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)» (سورة الفجر).
و»أين تولي فثمة غيب جليل» من و»أينما تولوا فثم وجه الله»
ولا يكف عن ولعه بالاستعارة القرآنية:
«كلما اطفأوا شاعراً أوقد الله كل بحسب نبوءته موغل في النشيد»
حيث يستعير ثنائية «أطفأ وأوقد» كما في «يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» (الصف/8 )
«كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ»(المائدة/ 64)
ما سر ولع الشاعر بسوق مفردة الشعر وتوابعها في سياق التركيب القرآني إلا لأنه يربط في استعارة خفية وظاهرة معاً بين نبوة الرسول ونبوة الشاعر كما هي استعارة العريض حين ينظر لموقف الشاعر كنبي وللقصيدة كنبوءة وقد ساق الجلاوي ذلك الاقتران في الصفحة 13 في نص آدم
ليس للطين إلا الأغاني
وما اقترف الأنبياء من الشعر
ليس له
أن يتوب إلى نفسه
واضحاً من خطيئته
ليس أكثر من قدر أو أقل
تكون مرافئه اللا بلاد.
إن هذا الفعل الاستعاري على المستوى الجمالي هو اقتباس والاقتباس وإن قيل فيه ما قيل قديماً إلا أنه تناص مقصود والتفات لجماليات سابقة على النص الجديد وإعادة شحن وتوظيف هذه الجماليات شعرياً وفنياً، ولكن على المستوى المعرفي يكون هذا الفعل اختيار لمتلقٍ خاص ومحاولة للتَّجَاري مع ذائقته وتسويق لنموذج جاهز وتسريب رؤية من خلاله.
وكذلك محاولة الاستفادة من الهالة التقديسية للنصوص السابقة وإدراج النص الجديد في أجوائها وما توحيه في عملية استلهام جديد خاص بالشاعر واختياراته بما يجعل العملية الشعرية لديه ترتبط بالهالة الدينية بما يجعل الشعر طقساً خاصاً تحضر فيه الهموم وكل النصوص السابقة ويجعل الشاعر يستعيد ألقَه في اشتداد الهموم ومواجهة التأزم الذي يصنعه التصادم مع الواقع بسبب ما تحمله النفس من أحلام وآمال ولذلك ليس أمام الشاعر كما عبّر غير أمرين.
ويترك جثته
لاختمار القصيدة أو
لاكتناز الوريد.
العدد 2792 - الأربعاء 28 أبريل 2010م الموافق 13 جمادى الأولى 1431هـ