العدد 2791 - الثلثاء 27 أبريل 2010م الموافق 12 جمادى الأولى 1431هـ

العراق... والسطو على «الديمقراطية»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

«النموذج الأميركي» الباهر في ديمقراطيته وتسامحه الذي وعدت إدارة جورج بوش شعوب المنطقة بتأسيسه في العراق يبدو أنه دخل مراحله النهائية. فالبلاد تقسمت ميدانياً إلى ولايات طائفية ومذهبية وكانتونات (وحدات ذاتية) مناطقية تتزاحم على المكاسب والمغانم. السرقات والفساد والمحسوبية تطورت طردياً إلى درجة أن حكومة بغداد احتلت المرتبة الثالثة عالمياً (بعد الصومال وبورما). الفوضى الأمنية انتشرت وعاثت بالأرواح والممتلكات. التهجير بلغ حده الأقصى والنزوح خارج البلاد حطم الأرقام القياسية. تفريغ الأحياء من سكانها وإعادة الفرز في المحافظات نجح في ترتيب علاقات أهلية صافية في تجانسها المذهبي والطائفي والأقوامي. النهب وتهريب الأموال والسطو على القطاع العام وأرزاق الناس أعاد تشكيل طبقة سياسية تكتنز ثروات حرام (أثرياء حرب) توزعها على الملاحق لضمان وجودها في السلطة. هوية العراق أصبحت في حكم المجهول وتبحث عن بدائل مصغرة في تكوينها الثقافي. شطب البلاد من الخريطة العربية وموقعها الإقليمي أصبح من المسلمات.

تقويض الدولة بدأ فعلياً بعد اجتياح بغداد وتدمير المؤسسات وحرق المتاحف والأوراق والسجلات الرسمية وتجويف الجامعات من الأساتذة وتسريح الجيش وتفكيكه وبعثرة ضباطه وجنوده لتسهيل عمل المليشيات في مهمة تعطيل حاجات الناس ومتطلباتهم التربوية والصحية والخدمية والأمنية.

كل هذا العبث تطلق عليه إدارة واشنطن «فوضى بناءة» وهو عنوان عام تندرج تحته مختلف التوصيفات الفرعية من ديمقراطية وتسامح. فالنموذج الساطع الذي أخذ بالتموضع في اليوم الثاني للاجتياح أخذ الآن يستعد للانتقال إلى محطة جديدة تعتمد على قانون هيئة «المساءلة والعدالة». والهيئة التي رافقت الاحتلال وجاءت معه من الخارج أخذت تدشن سلسلة قرارات متلاحقة بقصد السطو على «الديمقراطية» بعد أن ساهمت مع واشنطن في ترتيب أجواء السطو على العراق وثرواته النفطية.

ما يحصل الآن في بلاد الرافدين من تجاوزات على القانون تحت مسميات شتى هو نتاج طبيعي لذلك المشروع الأميركي النموذجي الذي تم تصديره من الخارج. والباطل لا يولد عنه سوى الباطل. ومن يتعاون مع الأجنبي للسطو على البلاد لن يتردد في التواطؤ معه للسطو على السلطة والاحتيال على «الديمقراطية» وتمريغ أنفها وتدوير نتائجها حتى تتكيف مع العصابة وتوابعها وتفرعاتها. المشكلة بدأت في الأصل ومن الخطوة الأولى وكل ما يأتي بعدها يصنف في دائرة الفروع. فمن يسرق بلده لا يتوانى في سرقة أصوات الصناديق وإعادة فرز أوراقها لتتناسب مع عصبة عاشت أمجادها في فضاءات الاحتلال.

السطو على الديمقراطية والتحايل على القانون وتدوير حقوق الناس لا يمكن أن يقع من دون موافقة مباشرة من إدارة الاجتياح حتى لو صدرت اعتراضات خجولة من واشنطن بقصد التمويه والتنصل من المسئولية ورمي الكرة في ملعب المتعاملين. فما يحصل هو جزء من المشروع الأميركي وذلك النموذج الباهر الذي وعدت إدارة جورج بوش شعوب المنطقة بتأسيسه في العراق. فالوعد في أسبابه وتفاعلاته وتداعياته ونتائجه يشبه في نكبته وكوارثه «وعد بلفور» الذي صدر في العقد الثاني من القرن العشرين في لندن وأعطى بموجبه فلسطين قطعة أرض (ملجأ) لغير أهلها. والتشابه بين الوعدين أخذ الآن يتمظهر في النتائج وأسلوب التعامل مع السكان وفق درجات ومسميات تميز بين الناس وتفرزهم إلى طبقات وهويات قاهرة ومقهورة.

من لا يزال يعتقد أن الولايات المتحدة جاءت إلى العراق بنية صافية وسليمة ونبيلة عليه أن يراجع حساباته ويقرأ ثانية وثالثة ورابعة الأهداف الحقيقية للاحتلال وما يبتغيه من وراء كل هذه الحروب والسياسات. فالنموذج العياني الذي ارتسمت معالمه على الأرض لا يحتاج إلى ذكاء للتعرف على أسبابه ومسبباته. والصورة التي تمظهرت في الأفق السياسي هي الغاية التي شجعت على الحرب وافتعال أزمة وهمية لتبرير الاجتياح والبدء في تمرير مشروع التقويض والفوضى والسطو.

محاكمة إدارة بوش ليست بحاجة إلى عناء لكشف أوراقها السرية. فالقضاء عادة لا يأخذ بالنوايا وإنما يحكم على المتهم بالشواهد والأدلة العيانية. البيانات والوقائع الجارية والنتائج الفعلية على الأرض كلها تشير إلى أن الطرف المسئول عن فوضى الاقتراع والتحايل على القانون والسطو على الديمقراطية ليس بعيداً عن مخطط المشروع الأميركي الذي تأسس على الباطل والخداع والافتراء.

ما يحصل في العراق الآن من تدوير لنتائج الاقتراع لا يمكن أن يحدث من دون موافقة أميركية بعيدة وقريبة. فالولايات المتحدة التي قررت الرحيل والتجمع في مواقع محصنة لا تريد أن تغادر بهدوء ومن دون فوضى أو عنف يزعزع الأمن والاستقرار. فالنجاح يعطي شرعية للنظام البديل (تحالف شيعي – سني وسطي معتدل) بينما الفشل يقدم لها ذلك الغطاء السياسي الذي يبرر الاجتياح ويسحب من أهل العراق الذرائع وما تنتجه من اعتراضات قانونية على الاحتلال.

السطو على الديمقراطية هو الوجه الآخر لعملية السطو على بلاد الرافدين. ومن يرتكب الكبيرة لا يتردد في افتعال الصغيرة. وهذه النتيجة الفعلية هي بالضبط تشكل صورة ملونة بالدماء عن ذلك الوعد الأميركي بتأسيس نموذج يغري شعوب المنطقة ويشجعها على تكراره في مناطق أخرى تحتوي في باطنها على مواد أولية قابلة أو جاهزة للاشتعال.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2791 - الثلثاء 27 أبريل 2010م الموافق 12 جمادى الأولى 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 1:33 ص

      تشاؤم

      مقالك يا أستاذ وليد به تشاؤم شديد جدا جدا لا مبرر له. العراق يعيش حالة مخاض هو عسير بالفعل ولكنه سوف يخرج هذا البلد العظيم من عنق الزجاجة.
      بحريني محب

اقرأ ايضاً